عدنان حسين
* كاتب عراقي
TT

مصير العبادي بعد 6 أشهر

الأسبوع الماضي أعلن مكتب رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، أن الأخير قد راجع أحد مكاتب التسجيل للانتخابات في العاصمة بغداد وتسلّم منه بطاقته الانتخابية. هو إعلان لم تكن غايته مجرد الحضّ على التسجيل واستخراج البطاقة الانتخابية، على أهمية هذا الهدف، لكنّها إشارة قوية من العبادي إلى أنه عازم على خوض الانتخابات المقبلة المقرّر إجراؤها بعد ستة أشهر، منتصف مايو (أيار) من العام المقبل، بل أيضاً الترشّح لولاية حكومية ثانية.
الولاية الثانية للعبادي طريقها سالكة، بل تبدو مضمونة تماماً. الظروف المساعدة لتأمين هذه الولاية لم تتوفر لأي ممّنْ سبقوه في هذا المنصب. عدد القوات المسلحة والأمنية يزيد الآن كثيراً على ما كان عليه في السابق، وتصويت هذه القوات، المعروف باسم «التصويت الخاص»، مضمون دائماً لرئيس الوزراء بحكم كونه، في الوقت عينه، القائد العام للقوات المسلحة. لكنّ نجاح العبادي في تحرير كامل المناطق التي احتلّها «داعش» جعل له شعبية واسعة، زاد نطاقها - خارج إقليم كردستان - في ظل الأزمة مع الإقليم حول مسألة الاستفتاء. العبادي يسعى الآن للإفادة من هذا كله من أجل ولاية ثانية يشكّل فيها حكومة تتمتع بقاعدة سياسية مريحة. وقد أعلن غير مرة أنه يتطلع لإنشاء تحالف وطني عابر للطائفية والقومية، والطريق ممهّدة أمامه في الواقع، ففي السنوات الثلاث الماضية حدثت تطورات كثيرة عملت لصالح كسر المعادلة السياسية التي ظلّت قائمة منذ إسقاط نظام صدام حسين في 2003، وهي المعادلة القائمة على المحاصصة السياسية - الحزبية المتلبسة بلباس طائفي - قومي.
طوال الحقبة المنصرمة كانت معادلة الحكم في بغداد تقوم على مثلث: شيعة، سنة، كرد، فقد تشكّل ائتلاف بين القوى الشيعية وآخر بين القوى السنية وثالث بين القوى الكردية، وتحكّمت هذه الائتلافات بمفاتيح السلطة والنفوذ والمال في بغداد وحدّدت مصير العملية السياسية برمّتها، بالتوافق وفي كثير من الأحيان خروجاً على أحكام الدستور. وكان هناك ائتلاف رابع موازٍ، غير قومي غير طائفي، هو ائتلاف «الوطنية» (العراقية سابقاً)، الذي لم يكن فعّالاً كفاية، بفعل فاعل بالطبع، هو توافقات التحالفات الثلاثة الأولى وتفاهماتها، فبقي هذا الائتلاف كما لو أنه لا في الحكم ولا في المعارضة!
نظام المحاصصة والتوافقات فشل فشل ذريعاً في إدارة العراق، وهذا ممّا صار يقرّ به ويعترف أقطاب الائتلافات الأربعة أنفسهم، فضلاً عمّا تفضحه أوضاع العراق المزرية أمنياً واقتصادياً واجتماعياً ووقوع ثلث مساحته تحت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي الذي لم تنتهِ تماماً الحرب معه. والآن، بعد بلوغ هذا النظام طريقاً مسدودة، تجري مساع للعمل في اتجاه آخر. انفرط في السنوات الأخيرة عقد التحالفات التقليدية، فالقوى الشيعية لم تعد موحدة، بل تعرّضت لانشقاقات، كما حصل مع دولة القانون (جناحي العبادي والمالكي)، ومع المجلس الأعلى الذي انشقّ عنه تيار الحكمة، ومع تيار الأحرار (الصدري) الذي خرج على التحالف الوطني (الشيعي) تماماً. وكذا الحال بالنسبة للكرد، فحركة التغيير والجماعة الإسلامية الكرديتان نأتا بنفسيهما عن التحالف الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، الذي كان قوة رئيسية في التحالف الكردستاني، يواجه عملية تشظّ بدأت في عهد مؤسسه وزعيمه الراحل الرئيس جلال طالباني. أما القوى السنية فهي الأكثر تشرذماً منذ أن اجتاح تنظيم داعش كامل المناطق السنية وتسبّب في نزوج الملايين من سكان المدن السنية التي ما لبثت أن تعرّضت إلى التدمير بفعل الحرب التي خاضتها القوات العراقية لتحرير هذه المدن من سيطرة التنظيم الإرهابي، وينتاب الرأي العام السني سخط بالغ على القيادات السنية، التي يرى أنها انصرفت إلى تأمين نفوذها والانخراط في عمليات الفساد الإداري والمالي.
هذه، إذن، أفضل فرصة عراقية لتشكيل ائتلاف عابر للطائفية والقومية، وهي فرصة متاحة للعبادي على وجه الخصوص، فهو رئيس السلطة التنفيذية، ومقبوليته داخل العراق وخارجه تتقدم باطّراد. وفي الأيام الأخيرة حظي بدعم علني من أكثر القوى الشيعية شعبية، التيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر. وثمة معلومات تفيد بإمكانية قيام تفاهمات مع قوى شيعية أخرى وقوى كردية وقيادات سنية جديدة أفرزتها مرحلة الاحتلال الداعشي، ومن المرجح نشوء تفاهم من نوع ما مع ائتلاف «الوطنية» الذي يقوده إياد علاوي. ومن متطلبات هذه التفاهمات قيام صيغة للحكم (الائتلافي) تختلف عن الصيغة التي تكرّست في عهد الحكومة السابقة، واستمرت بقدر ما في عهد الحكومة الحالية، هي صيغة التفرّد باتخاذ القرارات.
المؤكد أن العبادي سيزيد من حظوظه في قيادة ائتلاف موسع (وطني) والحصول على الولاية الثانية، إذا ما شرع في تنفيذ تعهّده المتكرر في الأسابيع الأخيرة: مكافحة الفساد الإداري والمالي، واستعادة الأموال المنهوبة على مدى 14 سنة، وتُقدّر بمئات مليارات الدولارات. هذا ملف مهم للغاية، ويتجاوب فتحه مع أكثر المطالب شعبيةً وإلحاحاً. لكنّ العبادي يواجه على هذا الصعيد عقبة كبيرة للغاية تتمثّل في أن عمليات الفساد في معظمها كانت، ولم تزل، تُدار من قيادات الأحزاب المتنفذة في السلطة، وهي في الغالب إسلامية، وبفتحه ملف الفساد سيكون العبادي كمن يدسّ عوداً محترقاً في عش دبابير. ومثل هذا سيكون استحقاق حظر حمل السلاح خارج إطار الدولة وفرض سلطة القانون.
الأمر المهم الآخر، هو العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان. استقرار العراق وتحقيق التنمية المستدامة المنتظرة والمتوجّبة في حقبة ما بعد «داعش»، يعتمدان بدرجة كبيرة على العلاقة بين بغداد وأربيل. حال التوتّر ستلقي بظلالها الثقيلة على كامل الأوضاع العراقية. وفي مقابل أخطاء ارتكبتها أربيل، وربما قبلها، وقعت بغداد هي أيضاً في أخطاء بنفس المستوى. الطريقة التي سيعالج بها العبادي هذه المشكلة بالذات سيكون لها دور في تحديد طبيعة الحكومة المقبلة ومصير العراق للسنوات الأربع التالية.