TT

من يقود أوروبا؟

أوروبا القارة العجوز تمتلك سر شبابها الخاص عبر العصور. تمتد في الزمان لكنها تتجدد معه بتخليق قدرات تطوع الزمان وتوظفه لصنع طرقها المبتكرة فوق سكة الحياة. أوروبا قادت العالم عبر قرون من مراكز مختلفة، الإمبراطورية الرومانية كانت المركزية العالمية الأولى تختلف عمّا سبقها من صيغ الهيمنة العابرة للحدود. روما فرضت سيطرة على أجزاء من القارات الثلاث، أوروبا وآسيا وأفريقيا. بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية تغيرت معايير الهيمنة العابرة للقارات. ولكن عبر قرون طويلة بقي لروما دورها القيادي بقوة الكنيسة الكاثوليكية. زعزها عاملان: بروز الحركة البروتستانتية، وبداية حقبة النهضة.
مقومات القيادة الأوروبية كانت توأماً لكل التطورات السياسية والعلمية والعسكرية في أوروبا. مع اتساع حركة الاستعمار، تحركت مراكز القيادة وتقاسمتها بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإلى حد ما البرتغال. بعد تيار التنوير وانطلاق حلقات الثورة الفرنسية لعب العمل العسكري الدور الحاسم في تخليق القوة الحاسمة. كان حلم نابليون الذي شكل سياسته أن يوحد أوروبا تحت زعامته. انكسر مشروعه بعد هزائم فرنسا أمام روسيا وبريطانيا. قبل بروز القوة الأميركية هيمنت فرنسا وبريطانيا على المشهد العالمي. وبعد الحرب العالمية الأولى وقيام الاتحاد السوفياتي تداخلت الخرائط وصار العالم غير العالم. الحروب هي المصنع الدامي للتاريخ.
الأفكار والآيديولوجيا في عصر التنوير ولدت في فرنسا وبريطانيا، وتحركت في أوروبا غربها وشرقها، ساهمت في صياغة مؤسسات وآليات الدولة الحديثة. لكن الحدث الأهم كان ولادة الاتحاد السوفياتي في روسيا وتمدد الفكر الشيوعي إلى أوروبا الشرقية، حيث فرض الاتحاد السوفياتي الأحزاب الموالية له على كراسي السلطة. بعد انطفاء لهيب الحرب العالمية الثانية اشتعلت حرب من فصيلة جديدة، هي الحرب الباردة بين المنتصرين في الحرب. انتقلت قيادة أوروبا الغربية لأول مرة إلى ما وراء المحيط الأطلسي، إلى واشنطن، وقيادة شرقها إلى موسكو. انقسم العالم معها إلى معسكرين، لكل منهما ذراعه المسلحة. حلف الناتو وحلف وارسو. غابت القيادة المحورية في أوروبا. الحال في المعسكر الغربي لم يكن مطابقاً لذلك الذي قام في الشرقي. تقاسم النصر في الحرب العالمية الثانية في الغرب ثلاث قوى هي: الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، في حين احتكره في الشرق الاتحاد السوفياتي منفردا. الجنرال شارل ديغول تمرد مراراً على القائد الأميركي للمعسكر الغربي واتخذ مواقف مستقلة عنه، انسحب من قيادة حلف الأطلسي، وانتهج سياسية خارجية مستقلة. بريطانيا كانت تتحرك بيدين سياسيتين، إحداهما أوروبية والأخرى أميركية، أما ألمانيا المقسمة بين المعسكرين التي أشعل زعيمها النازي هتلر الحرب العالمية الثانية، من أجل الهيمنة على أوروبا وقيادتها، فقد غابت عن دائرة صنع القرار. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتهاوي الأنظمة الشيوعية الدائرة في فلكه، وزوال حلف وارسو، تغيرت المسارات. عادت ألمانيا دولة موحدة، وتحركت أوروبا نحو إقامة كيان جديد عملاق هو الاتحاد الأوروبي. تراجعت الهيمنة الأميركية، فقد زال التهديد الشيوعي لأوروبا، واختفى حلف وارسو. الدول القوية كائن حي، تنمو وتتطور وتتغير دون توقف، وذلك يعيد معايير القياس والتنافس. بعد الحرب العالمية سيطرت الأحزاب الديمقراطية المسيحية على الحكم في بعض الدول الأوروبية، في إيطاليا وألمانيا وبلجيكا، وتبادلت أحزاب اشتراكية تحت أسماء مختلفة مراكز السلطة، الائتلافات الحكومية لم تغب عن القيادة في حلقات مختلفة في أكثر من دولة. رحلة أوروبا في البحث عن تكوين أو هوية قارية جامعة تحت مظلة تجيب عن الإكراهات التي صاغها مشهد دولي متغير وضاغط. أوروبا التي أنتجتها الحرب العالمية الثانية لها قيادة مزدوجة، بريطانيا وفرنسا، دولتان دائمتا العضوية بمجلس الأمن، يمتلكان أسلحة نووية. ألمانيا الموحدة قوة اقتصادية ضاربة هي الأولى أوروبيا.
الزعيم، أو القائد السياسي لعب دوراً مهماً في حقب معينة في أوروبا الغربية، من ونستون تشرشل، إلى شارل ديغول، وشميدت في ألمانيا، وجوليو أندريوتي في إيطاليا.
مع التغيرات الاقتصادية والسياسة وظهور أحزاب جديدة ببرامج مبتكرة، ودخول دول أوروبا الشرقية ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي اختلت مركزية القيادة الأوروبية. ألمانيا بقوتها الاقتصادية أصبحت رأساً فاعلاً في السياسة الدولية. هي ليست عضواً دائماً في مجلس الأمن ولا تمتلك سلاحاً نووياً، لكنها، أي ألمانيا، كانت رقماً مضافاً وحاسماً في المفاوضات بين الدول الكبرى وإيران. خالفت علانية وبقوة توجهات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في موقفه من قضية المناخ. وإلى اليوم تقود حملة سياسية مضادة للتصعيد الذي يحركه ترمب ضد التفاهم الذي تم مع إيران. بريطانيا ودعت الاتحاد الأوروبي وتراجع حضورها الأوروبي إلى أدنى مستوى له. عادت روسيا إلى غرفة القيادة في العالم من بوابات كثيرة وأوسعها البوابة السورية، هناك جلست بتصادم أو تبادل نظرات مع الولايات المتحدة وأطراف أخرى غير أوروبية.
السؤال: من يقود أوروبا اليوم؟ رغم وجود جسم أوروبي ضخم (الاتحاد الأوروبي) فإنه لم يؤسس آلية قيادية سياسية مركزية تحدد التوجهات والبرامج السياسية الأوروبية الدولية. فدول أوروبا الشرقية التي ورثت بيروقراطية ثقيلة من الحقبة الشيوعية، تجد صعوبة مزمنة في التناغم مع إيقاع الفكر والعمل السياسي مع دول أوروبا الغربية، التي تتقن إدارة الاختلاف عبر تجربة ديمقراطية طويلة. ظهور تيارات سياسية متطرفة وحركات شعبوية، وجيل شاب من متصدري المشهد السياسي، أضافت عوامل أخرى لمعطيات ومسارات مركزية القيادة الأوروبية. نستطيع أن نقول من هذه القراءة، إن القيادة السياسية في أوروبا أصبحت تتصف بالأفقية، وتراجعت مركزية القيادة على مستوى الكاريزما الشخصية، أو المركزية المتمثلة في دولة محددة. طبيعة الاستحقاقات التي تواجه أوروبا تلد مواصفات القيادة وطبيعتها ومكانها، للحروب قيادتها وللأوضاع السياسية والاقتصادية ربابنتها. السيولة المتحركة أوروبيا ودوليا تجعل المشهد متحركا، لكن رغم كل ذلك تبقى أوروبا القارة الأكثر قدرة على التكيف على إدارة شؤونها الداخلية، والتعامل مع ما تفرضه الأحداث المندفعة بسرعات مختلفة. لكل مرحلة سياسيوها ودولها. ألمانيا وفرنسا هما قطبا أوروبا عبر التاريخ حرباً وسلاماً، اليوم فرنسا يقودها شاب متحمس مدعوم بشعبية واسعة وفاعلة، يتقدم ببرنامج إصلاح اقتصادي جريء، في حين تعاني حليفته الألمانية ميركل من صعوبات حقيقية، وقد لا تنجح في تشكيل حكومة ائتلافية، وتذهب إلى انتخابات مسبقة. ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستكون القيادة الأوروبية في السنوات القادمة أمام أكثر من عامل ارتباك، خاصة في زخم عودة روسيا إلى حلبة الفعل السياسي الدولي، وغياب محور أوروبي أميركي بسبب الخيارات المتحركة للرئيس ترمب، والحقيقة الصينية العملاقة اقتصاديا وسياسيا. نحن في دنيا جديدة وواقع متجدد وقيادات شابة تقدم إجابات لأسئلة يطرحها جيل لم نعرفه من قبل.