إميل أمين
كاتب مصري
TT

موازين القوة في عالم متغير

بسرعة غير مسبوقة تتغير موازين القوى الدولية، سباق أحجار على رقعة الشطرنج في مباراة إدراكية عسيرة، فيها من يحاول الحفاظ على مكانته القطبية كأول دون نزاع، ومن بينها أطراف تعمد إلى تعديل المشهد عبر طرفي معادلة القوة الأزلية، أي القوة الاقتصادية التي تؤدي بالضرورة إلى تخليق قوة عسكرية، ثم هذه الأخيرة وتفوقها، الأمر الذي يُعدّ ضمانة لخدمة المصالح الاقتصادية والتجارية حول العالم.
عبر العقود الثلاثة الماضية استطاعت الصين وعلى نحو خاص أن تواجه الولايات المتحدة اقتصاديّاً، حتى قيل إنها بلورت تعبير «توازن الردع النقدي لا النووي»، غير أن الأيام الماضية تكاد تجزم باقتراب الصين من عالم القوة العسكرية القطبية، بعدما قُدر لها النجاح في عوالم الاقتصاد والمال حول العالم وبجدارة.
الأسبوع الماضي، أعلنت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية عن بلوغ الصين مرحلة جديدة من القوة الصاروخية الباليستية عبر صاروخها المرعب ذي القدرات الخارقة «دونغفنغ - 41» العابر للقارات، الذي يصل مداه إلى 12 ألف كيلومتر، ويمكنه حمل عشرة رؤوس نووية دفعة واحدة، وكل رأس يمكن أن يستهدف منطقة معينة وبسرعة تصل إلى 767 ميلا في الساعة.
ما الذي تريده الصين على وجه التحديد؟ وهل تسعى لانتزاع القطبية العالمية المنفردة من براثن الولايات المتحدة، أم أن لها أجندةً خاصةً تبدأ مرحليّاً من القارة الآسيوية ثم تنطلق منها لاحقاً إلى ما تشاء؟
يبدو واضحاً أن القادة الصينيين الذين رأيناهم في مؤتمرهم الشعبي الأخير عازمين على تصدير نموذج الحكم لديهم إلى بقية العالم، باتوا قلقين من أحوال العالم المضطرب، ولذلك ربما هم ماضون في تغيير قواعد النظام العالمي، قبل أن يغيرهم هذا النظام نفسه، وهذا ما يؤكده عالم السياسة الأميركي الشهير جون ميرشيمر بجامعة شيكاغو، الذي يقطع بأن الصين لا يمكن أن تنهض بشكل سلمي.
على أنه وفي حين تبدأ الصين دخول مرحلة الأقوياء عسكريّاً في عالم يتصارع صاروخيّاً، ربما لتفادي التحام الجيوش البرية، كما درج الحال في الحروب الكونية الأخيرة، نراها من جانب ثانٍ تنتقل إلى المرحلة الجديدة المشابهة إلى حد التطابق مع نهج القوى العظمى عبر التاريخ، حيث تسعى إلى إقامة مناطق نفوذ، وإنشاء شبكات من الأصدقاء والحلفاء لإقامة توازن قوى موالٍ لبكين، يضمن لها الوصول الآمن إلى الموارد الطبيعية والأسواق والقواعد، ويحقق إصلاح المؤسسات القديمة وتشكيل مؤسسات جديدة، وتأسيس نظام إقليمي يخدم المصالح الصينية ويقوِّض مصالح الخصوم.
لم تعد الصين اليوم تتطلع لبسط نفوذها على القارة الآسيوية براً وبحراً وجواً، بل نراها فعلاً وقولاً تتمدد إلى ما هو بعيد جداً، لا سيما عبر طريق الحرير الذي يرسي لها نفوذاً في مياه آسيا والخليج العربي، وصولاً إلى قلب الشرق الأوسط، ومنه إلى القارة الأفريقية التي تضعها نصب أعينها.
ترى الصين أن القارة السمراء أرض بكر مليئة بالكنوز، وأنه كما يتسارع الأميركيون في طريقها، فمن حق بكين أيضاً أن تخوض التجربة وتستغل الفرصة، الأمر الذي يتجلى في قاعدة جيبوتي العسكرية، والتدخل الأخير في زيمبابوي، والحديث يطول.
أحد أهم الأسئلة المطروحة في عالم متغير: إلى أي حد سوف يؤثر قيام الصين ونهضتها عسكريّاً واقتصادياً على مكانة الولايات المتحدة الأميركية على الخريطة الدولية؟
أفضل من قدم لنا الجواب البروفسور جوزيف ناي المفكر الاستراتيجي الأميركي الكبير وصاحب مفهوم «القوة الناعمة»، وباختصار غير مخلّ يذهب إلى أن نهوض الصين، سيكون معناه الاختزال من القوة الأميركية التقليدية المستعلنة حول العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة، وأن تبدلات المشهد الأممي تتشابه مع عملية الإزاحة التي قامت بها أميركا تجاه بريطانيا، منتصف القرن الماضي، وعلى المنوال ذاته يزعم روبرت كاجان في عموده اليومي أن القيادة الصينية تنظر إلى العالم بالطريقة نفسها، التي فعلها القيصر ويلهلم الثاني منذ قرن.
كان عهد ماو تسي تونغ بداية لإحياء الدولة الصينية العتيدة، ويمكن القطع بأن زمن شي جينبينغ هو أوان ملامسة سقف القطبية العالمية، ذلك أنه بعد النجاحات الاقتصادية التي خوّلت للرجل أن يطالب باحتلال المرتبة التي تعود إليها داخل صندوق النقد الدولي في عهد سلفه هو جينتاو، والبدء بتدويل اليوان، رأيناه يرتفع، بل ويحلق بالميزانية العسكرية، من أجل تحديث الجيش وبناء سلاح بحري خليق بحمل هذا الاسم.
يمكن القطع بأن حديث صواريخ الصين الباليستية الجديدة رسالة لواشنطن بألا تفكر في الاقتراب من بحر الصين الجنوبي، لا سيما أن الصينيين لديهم قناعة مطلقة مفادها أن واشنطن تريد إعاقة تنميتهم المستمرة والمستقرة.
لا تزال الفلسفة الكونفوشيوسية هي الموجه الأول والرائد للصينيين، وما طريق الحرير والصواريخ الباليستية إلا ضرب من ضروب «الالتفاف على العائق»، ومحاولة كسب معارك دون إطلاق رصاصة، إلى أن يُسلِّم العدو أوراقه بنفسه، كما يوصي صن تزو في خالدته «فن الحرب».
هل من نهضة لبكين بعيداً عن أوضاع موسكو وواشنطن؟ إلى قراءة مقبلة إن شاء الله.