نيكولاي كوزانوف
زميل باحث في «تشاتام هاوس» بلندن ومحاضر في الجامعة الأوروبية في سان بطرسبورغ
TT

روسيا تركز على التسوية بعد هزيمة «داعش»

أسفر سقوط معاقل «داعش» الرئيسية في سوريا عن ظهور تحديات تتعلق بضرورة إيلاء موسكو مزيداً من التركيز على العملية السياسية الرامية إلى تسوية الصراع السوري، الأمر الذي يعني بدوره تهيئة المرحلة المقبلة لعقد حوار موسع بين الأطراف المتنازعة، إذ يرغب الكرملين في أن يحصد وكلاؤه مزيداً من الزخم السياسي، وبأكثر مما قد يحصل عليه خصومهم.
بدت التحركات الدبلوماسية الروسية، خلال الثلاثين يوماً الماضية، فيما يتعلق بالقضية السورية، محمومة بصورة ملحوظة. من ناحية، أدلى الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترمب ببيان مشترك في قمة في دانانغ (فيتنام) في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، بشأن الصراع السوري، أكدا فيه أن التسوية السياسية هي المسار الوحيد للصراع القائم، وأكدا أيضاً على احترام عملية جنيف، فضلاً عن مبادئ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. ومن ناحية أخرى، وبعد مرور عدة أيام، وجه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتهاماً صريحاً إلى أعضاء الأمم المتحدة، بعدم القيام بما يجب في شأن تسوية الصراع السوري، مضيفاً أنه ينبغي على روسيا، وبمعاونة اللاعبين الإقليميين في إيران وتركيا، منح دفعة جديدة لعملية المصالحة السياسية في سوريا.
وأثار هذا الموقف، بدوره، على الفور تساؤلاً مهماً بين المحللين السياسيين، بشأن مصلحة روسيا في المحافظة على عملية جنيف، إذ رأى بعضهم أن الكرملين يسعى لتقويض أهمية محادثات جنيف ومحاولة استبدال عملية آستانة بها، والتي تهيمن عليها بالأساس القوى الإقليمية التي تعد موالية لموسكو بصورة من الصور. ومع ذلك، وعندما يتعلق الأمر باللاعبين الإقليميين، قد يبدو الموقف الروسي غير متسق: بدلاً من المضي قدماً في محادثات آستانة، قررت موسكو عقد اجتماع الحوار الوطني السوري. وفي الوقت الذي تغازل فيه موسكو الأكراد السوريين، فإنها تعمل في الوقت ذاته على بناء مزيد من التعاون مع تركيا وإيران. وهكذا، التقى الرئيس الروسي، خلال الشهر الحالي، بنظيريه التركي والإيراني مرتين متتاليتين (بما في ذلك اجتماع 22 نوفمبر الحالي). وأخيرا، كانت روسيا تتشاور مع إسرائيل حال العمل على إنشاء مناطق خفض التصعيد في جنوب وغرب سوريا.
ومع ذلك أيضاً، وفي 14 نوفمبر، وصف وزير الخارجية الروسي الوجود العسكري الإيراني في سوريا بـ«المشروع»، وجاءت ردود فعله سلبية حيال البيانات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين والمعنية بضمان موسكو لانسحاب القوات الإيرانية من الأراضي السورية، إلى مسافة قريبة من الحدود مع إسرائيل.
وعلى الرغم مما تقدم، وإن وضعنا الأمر في الحسبان، فإن التحركات الدبلوماسية الروسية توحي بمزيد من المنطقية والمساومة عن الخطوات المتخذة من بعض القوى الغربية. أولاً وقبل كل شيء، أن روسيا تتفهم أهمية اللحظة الراهنة في الصراع السوري، وأن المرحلة العسكرية النشطة لذلك الصراع قد قاربت على الانقضاء. فلقد لحقت الهزيمة الفادحة بتنظيم داعش الإرهابي (إلا أن ذلك لا يعني نهاية التنظيم بالكامل) ولقد حان الوقت للبدء في بناء سوريا الجديدة على أنقاض الدولة القديمة الممزقة. ويدرك الكرملين أنه إن رغب في المحافظة على الوجود الروسي في سوريا لما بعد الصراع، فلا بد من أن يتصدر قيادة هذه العملية.
ومع ذلك، من غير المنتظر أن تلعب محادثات جنيف دور نقطة البداية الجيدة في العملية السياسية الجديدة، فهناك كثير من القوى الضالعة فيها بغية التوصل إلى توافق فوري حيال كافة القضايا ذات الصلة. وبدلاً من ذلك، يمكن لعملية جنيف أن تلعب دور المرحلة الأخيرة من العملية السياسية، والمعنية بصياغة واعتماد الدستور الجديد وتشكيل وجه الحكومة السورية الجديدة.
قبل مناقشة القضايا ذات الاهتمام العالمي، لا بد من مواصلة تنفيذ وقف إطلاق النار على المستوى الإقليمي في البلاد، والعمل على بناء الحكومة المحلية، والعودة إلى الحياة الطبيعية التي يمكن للأطراف المتناحرة التعايش في ظلها بعضهم مع بعض. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال سلسلة من المفاوضات بين مختلف القوى الفاعلة على الأرض. وهذا بدوره يزيد من أهمية محادثات آستانة. من أجل ذلك، تولي موسكو في الوقت الراهن مزيداً من تركيز جهودها الدبلوماسية للعمل مع البلدان التي تملك الكلمة في الواقع السوري.
وهكذا أكدت القيادة الروسية دعم تشكيل جماعة معارضة وموحدة لتمثيل القوى المناهضة لرئيس النظام بشار الأسد في اجتماع جنيف المنتظر. وفي الأثناء ذاتها، كثف الكرملين من المشاورات مع طهران وأنقرة، بغية مناقشة الموقف بشأن عفرين وإدلب، ومستقبل مناطق خفض التصعيد هناك. كما تولي موسكو اهتماماً منفصلاً إزاء تهدئة المخاوف الإيرانية والتركية، بشأن ولاء موسكو لالتزامات الشركاء، على سبيل المثال اجتماع الرئيس الروسي بنظيره الأميركي، والاجتماعات المتكررة بين المسؤولين الروس والإسرائيليين، فضلاً عن الصمت الروسي بشأن الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق، وهي القضايا التي أثارت قدراً من المخاوف لدى طهران بأن روسيا تسعى للتخلي عن إيران في الواقع السوري.
وكان هذا هو السبب وراء بيان وزير الخارجية الروسي لمحاولة طمأنة طهران. كما أن روسيا قد علقت مؤقتاً التحضيرات لانعقاد مؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي كان محاولة من جانبها لزيادة زخم المعارضة شبه الرسمية، وضم الجانب الكردي إلى مائدة الحوار، وبالتالي، تعزيز مواقف جماعات المعارضة الموالية لموسكو في محادثات جنيف. أيضاً، عمدت موسكو إلى تأجيل مؤتمر الحوار الوطني السوري، في محاولة منها لتهدئة المخاوف التركية بشأن مشاركة الأحزاب الكردية فيه، باعتبارها قوى مستقلة.
أما بالنسبة للغرب، فلا يثير الجانب الأوروبي أو الأميركي جُل اهتمام موسكو في المرحلة الراهنة. فإما أنهما لا يبديان كثيراً من الاهتمام اللازم بمزيد من الانخراط في الشؤون السورية، أو لا يملكون كثيراً من النفوذ والتأثير على الواقع السوري. وخلال اجتماع الرئيس بوتين بالرئيس ترمب في فيتنام، حصلت موسكو على أقصى ما تحتاجه من واشنطن، إذ حصلت على ضمانات بأن تعترف الولايات المتحدة ببشار الأسد، والتزامها بمبادئ وحدة وسلامة الأراضي السورية، واحترامها لمبادئ خفض التصعيد، ودعمها لعملية جنيف.
وفي المقابل، اتسق الموقف الروسي مع نظيره الأميركي الذي يضع مكافحة الإرهاب على رأس أولوياته القصوى، إذ أكدت روسيا في البيان المشترك على اهتمامها بقتال «داعش»، جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وحتى الانتصار النهائي. ومع ذلك، حتى هذا البيان المشترك كان يصب في صالح الكرملين. بعد سقوط معاقل «داعش» الرئيسية في سوريا، قد ينشأ التشكيك في مشروعية الوجود العسكري الروسي في البلاد.
ومن الناحية الرسمية، جاءت القوات الروسية إلى سوريا لمكافحة الإرهاب وقتال الإرهابيين، أما الآن، فإن التنظيم الإرهابي الرئيسي (وإن لم يكن الوحيد) قد نالته الهزيمة العسكرية الفادحة. وأشار الإعلان الأميركي الروسي المشترك، ضمنياً، بشأن ضرورة مواصلة الحرب ضد الإرهابيين، إلى أن الحرب ضد الإرهاب في سوريا لم تنته بعد، وهذا بدوره «يشرعن» لمزيد من وجود القوات الروسية في البلاد.
وإجمالا للقول، إن لم تشهد المقاربات الأميركية حيال الصراع السوري أي تغيرات، فقد ترغب موسكو في التحادث مع الجانب الأميركي بشأن المستقبل السوري لما بعد القضايا محل النقاش في فيتنام، عندما يتعلق الأمر، بصورته المباشرة، بالتحضيرات الفنية للاجتماع المقبل في جنيف.

* باحث روسي في مركز «تشاتام هاوس» البريطاني - موسكو
*خاص بـ«الشرق الأوسط»