يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

جغرافيا الشره السياسي: صواريخ إيران في اليمن

بعد أن انكشف للعالم كله الشره الإيراني في المنطقة عبر أذرعها الطائفية والعسكرية، وآخرها استخدامها الحرب في اليمن وقوداً لمشروعها في تصدير الأزمات للمنطقة، وفتح جبهات جديدة بعد أن ضاق الخناق بها في سوريا ولبنان والخليج، وباتت محاصرة بالتدخلات السيادية المباشرة؛ يطرح التساؤل اليوم عن حدود الشره للجغرافيا السياسية المتخيلة لإيران، وفهم استراتيجيات ذلك السلوك المقلق اليوم وأمس وإلى أجل غير معلوم وفقاً لطموحها كطرح نفسها إمبراطورية التأزيم في منطقة الشرق الأوسط بعد فشل مشروعين؛ أولهما مشروع الإرهاب المنظم لجماعات العنف السياسي التي حاولت استغلاله من «القاعدة» إلى «داعش» إلى الميليشيات الشيعية المقاتلة، وفشل استمرار لحظة الربيع العربي التي جاءت بعد انحسار ربيع إيراني وصعود نهم لقضم ما تبقى من استقرار المنطقة عبر بعث الطائفية السياسية في بعديها الديني والمذهبي واستغلال ملف الأقليات للنفوذ عبره.
إيران المحاصرة بجغرافيا السياسة وصعود أصوات ناقمة على تدخلها في العراق وسيطرتها عليه منذ لحظة سقوط نظام البعث، تحاول الذهاب بعيداً عبر الجيوبولتيك السياسي طمعاً في امتداد جغرافيا عسكرية خارج إمكاناتها الحدودية بقصد الهيمنة العسكرية والسياسية، وهو ما يعرف بجغرافيا السيطرة، لكن ليس على طريقة الاستعمار المباشر، وإنما العمل كمظلة آيديولوجية تقويضية مستغلة التداخل الطائفي بالملفات السياسية، وانهيار مفهوم الدولة في المناطق التي تستهدفها مثل لبنان واليمن، وهو ما يعني الاستثمار في الواقع السياسي المتردي لكلتا الدولتين عبر تعميق سيطرة ميليشيا «حزب الله» والحوثي وابتلاع ما تبقى من مفهوم الدولة.
الصاروخ الحوثي الاستعراضي الذي تم إطلاقه لم يكن فقط يستهدف سيادة السعودية واختبار قدرتها الدفاعية؛ فهو أمر تدرك طهران قبل الحوثيين أنه بعيد المنال، لكنه رسالة عدائية ليس للسعودية فحسب بل للقوى الدولية، بما فيها الولايات المتحدة، في توقيت يعقب الرسالة الصريحة التي أطلقتها أميركا وأعلنت فيها عن استراتيجية جديدة ضد نظام الملالي والحرس الثوري التابع له، وهو ما نقرأه في تصريح الرئيس ترمب الذي اعتبر إطلاق الصاروخ الإيراني جزءاً من أعمال الحرب ضد الخليج وليس السعودية، وهو ما تؤكده التصريحات التي لحقت ذلك في الصحف الإيرانية التي لمحت إلى أن الإمارات ستكون الهدف الثاني لهذه الاستراتيجية الحربية الجديدة.. هذه التصريحات الإيرانية تلقفها عبد الملك الحوثي فتى إيران النزق بعبارات مشابهة، مؤكداً أن دبي باتت تحت نطاق صواريخ جماعته التي تعيش أحلك ظروفها في ظل انهيار الأوضاع في صنعاء، واستباحتهم كل مخالفيهم حتى من حزب المخلوع، واستثمارهم في الحشود البشرية والمدنيين دروعاً يتترسون بها في ظل ضربات التحالف التي تلاحق مقراتهم العسكرية ومستودعاتهم الحربية.
ما بعد صاروخ الحوثي تأكد للعالم أن الدعم الإيراني لجماعة أنصار الله يتجاوز اللوجيستي والعسكري ويتعداه إلى اعتبار اليمن ساحة حرب إيرانية مباشرة، وبحسب تقارير في وزارة الخارجية الأميركية فإن الحرس الثوري الإيراني وفر مساعدات بنقل أجزاء كبيرة من معدات الصواريخ وقطع للتركيب وقذائف باليستية وأنظمة صواريخ متكاملة، وهو أمر لا يعتبر سابقة في الشره الإيراني لاستراتيجية التدخل العبثي في أمن المنطقة، حيث قامت بإمدادات كبيرة إلى «حزب الله» بمنظومة قاذفات صواريخ منذ بدايات التسعينات الميلادية.
هدف إيران هو اللعب على الجيوسياسة في منطقة الخليج عبر أذرعها، ولو أدى ذلك إلى خسارة تلك الميليشيات بالكامل، لكنها نسيت في ظل غمرتها التوسعية أن اليقظة السعودية بأهدافها في المنطقة بات أمراً مكشوفاً للعالم كله، وأنها أول من سيدفع الثمن قبل ميليشياتها التي تسخرها لتحقيق أهدافها، والصاروخ الذي استهدف العاصمة السعودية هو تمهيد لتحرك القوى الدولية لإيقاف حرب مستعرة في المنطقة لا يمكن التنبؤ بانعكاساتها، لا سيما مع انتهاك نظام طهران العقوبات الدولية واتفاقات حظر الأسلحة، وتأثير ذلك على كل الإجراءات التي تقوم بها المنظمات الدولية للإشراف على الاتفاق النووي، وهو ما يطرح ضرورة المطالبة بالحصار البحري على السفن الإيرانية في الخليج أو التهريب البري عبر دول خليجية ليس في وسعها أن تبقى على الحياد بعد أن وصل الأمر إلى حالة الحرب المفتوحة.
الخيار السعودي في التعامل مع الإيراني والخطر الإقليمي هو مواجهة هذا النفوذ عبر المؤسسات الدولية والتفاهمات الدولية مع القوى المؤثرة في المنطقة، لكن حدود العقلانية السعودية مرتبط بتحرك المجتمع الدولي تجاه إيران والمشكلات التي تخلقها في المنطقة، وأي حديث عن استقرار للمنطقة خارج كف اليد الإيرانية هو حديث مرفوض بعد أن تكشفت الادعاءات الإيرانية واللعب على خلط الأوراق.
إيران بعد العبث بالمنطقة عبر أذرعها تتجه إلى تبني لهجة دفاعية تعكس حالة القلق من ردة فعل السعودية والمجتمع الدولي، وهو ما يفسر محاولات التهدئة التي جاءت في زيارة ماكرون الذي أدان إيران في تصعيدها وأطلق نذر القلق من مستقبل التصعيد.
الرؤية في الولايات المتحدة تبدو أكثر وضوحاً مع حرص إدارة ترمب على تبني استراتيجيات أكثر صراحة ضد الاعتداءات الإيرانيّة في المنطقة، وهناك اتفاق بين كلا الحزبين في الكونغرس لقلب الطاولة على نظام طهران، وربما كان تفعيل قانون «منع زعزعة الاستقرار في العراق وسوريا» الذي يرعاه عضوا مجلس الشيوخ الأميركي ماركو روبيو وبوب كيسي بداية لفرض عقوبات على المنظمات الإرهابية التي ترعاها إيران من «الحرس الثوري» إلى «حزب الله» إلى «أنصار الله» الحوثي، إضافة إلى إيجاد صيغة متفاهمة مع روسيا بشأن الملف السوري وصيغة توافقية سياسية لضمان خروج التدخل الإيراني في العراق.
حالة التصعيد في المنطقة غير مسبوقة، إلا أن الجانب المشرق في منسوب الأزمة هو انكشاف زيف الدعاوى الإيرانية ومحاولاتها في ترحيل أزمتها الداخلية إلى الخارج، ورغم كل هذا التصعيد الإيراني وخلطها الأوراق وإطلاق الأكاذيب والدعايات الرخيصة عن الشأن السعودي الداخلي فإن السعوديين - بحسب تغريدة ترمب على يقظة المملكة تجاه المخطط الإيراني في المنطقة - «يعرفون جيداً ما يفعلون»!