ليونيد بيرشيدسكي
TT

التكتيك الروسي وبوصلة الغرب الأخلاقية

وجّه البيت الأبيض ازدراءً ضمنياً إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الجمعة، بإعلانه أن الرئيس دونالد ترمب لن يعقد لقاءً رسمياً بنظيره الروسي على هامش فعاليات منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي، المنعقد في فيتنام؛ رغم أن الكرملين سبق وأن أعلن مراراً عن عقد هذا اللقاء. الواضح أن الحوار بين الولايات المتحدة وروسيا تضرر كثيراً لدرجة أكبر مما يتصورها الكرملين ذاته.
التساؤل هنا: هل اقترف بوتين خطأ استراتيجياً بمضايقته الولايات المتحدة وديمقراطيات غربية أخرى علانية، في وقت كانت تجري انتخابات حيوية عامي 2016 و2017؟ يرى الأذكياء أن هذا حدث بالفعل.
من بين هؤلاء مارك غاليوتي، أحد أكثر الأكاديميين الغربيين المهتمين بالشأن الروسي حصافة في الوقت الحالي، والذي كتب مقالاً في صحيفة «الغارديان» في وقت قريب، قال فيه: «من الناحية التكتيكية، قدم بوتين أداءً رائعاً، لكن من الناحية الاستراتيجية اقترف خطأ بإثارته سخط كثير من الدول الكبرى في الغرب، وهي الدول ذاتها التي يجري غسل الأموال الروسية بها».
في الواقع، على امتداد سنوات، احتدم جدال في صفوف الخبراء الغربيين حول أي الأمرين يشكل نقطة قوة بوتين الكبرى: الاستراتيجية أم التكتيكات؟ وإذا كان المرء يرى أن الجهود الساعية لزرع الفوضى والترويج داخل بعض الدول لمرشحين شعبويين في الانتخابات قد أتت بنتائج عكسية على روسيا، فإن هذا يكشف أن بوتين شخص تكتيكي يمارس ألعاباً قصيرة الأجل ببراعة، على حساب اللعبة الأطول أمداً.
من جانبي، أتابع بوتين منذ قبل توليه السلطة، ولست في الواقع واثقاً بصحة هذا الرأي، وإنما أرى أن الرئيس الروسي حاول خوض لعبتين طويلتي الأمد على امتداد سنواته الثماني الأولى في السلطة.
خلال فترة رئاسته الأولى، حاول بوتين اتباع قواعد ما يطلق عليه «باكس أميركانا» والتي ترمي لتحقيق الازدهار الاقتصادي، وإجبار حكومته على العمل على مضاعفة النمو الاقتصادي، واحتلال مراتب متقدمة في التصنيفات العالمية، مثل مؤشر سهولة إجراء الأعمال الصادر عن البنك الدولي؛ بل تحدث عن إمكانية انضمام روسيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). ورغم أن سياساته الداخلية لم تكن ليبرالية آنذاك، فإن الحقيقة تظل أن بوتين خلال فترة رئاسته الأولى كان مختلفاً عن قيادات أجنبية أخرى، مثل فيكتور أوروبا في المجر، وياروسلاف كاتشينسكي في بولندا، وسيلفيو بيرلسكوني في إيطاليا.
أما خلال فترة رئاسته الثانية، فقد بدا أن بوتين بدأ يشعر بالسأم حيال القواعد الغربية، وبدأ يحاول الوقوف على قدم المساواة في محادثاته مع الولايات المتحدة وقوى أوروبية. وخلال تلك السنوات، حصدت روسيا ثروات هائلة نتيجة ارتفاع أسعار النفط، وانتشرت الثروات الروسية دولياً، الأمر الذي عزز ثقة بوتين بنفسه.
وبلغ الأمر ذروته خلال الخطاب الذي ألقاه بوتين عام 2007 أمام مؤتمر ميونيخ حول السياسات الأمنية، الذي اتهم خلاله الولايات المتحدة بكونها متلهفة على نحو مفرط على استخدام القوة على صعيد العلاقات الدولية. ومع هذا كان بوتين في ذلك الوقت لا يزال شريكاً للغرب، بالنظر إلى مشاركته في مجموعة الثماني، والحرب ضد الإرهاب.
وخلال السنوات الأربع التي قضاها بعيداً عن الرئاسة من 2008 حتى 2012، من الواضح أن ثمة قناعة تولدت لدى بوتين حول أن الاستراتيجيتين السابقتين القائمتين على الشراكة لم تفلحا. ويفسر ذلك الشجار العلني المرير الذي اندلع بينه وبين الرئيس آنذاك ديمتري ميدفيديف حول التدخل الغربي في ليبيا عام 2011. ومع خروج الروس في مظاهرات اعتراضاً على تزوير الانتخابات، أعلنت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون علانية دعمها للمتظاهرين، وبذلك انتهت اللعبة الطويلة الثانية التي خاضها بوتين، ومضى فيها ميدفيديف.
واللافت أن بوتين لم يتصرف على نحو فوضوي أو غير متوقع على امتداد الجزء الأكبر من فترة حكمه. في الواقع، قد يكون بوتين أكثر استراتيجية من أي قائد غربي معاصر له، ربما لأنه لم يهتم مثلهم بمسألة الفوز في الانتخابات. وعليه، يبدو من غير المحتمل أن يكون قد تحول فجأة خلال فترة ولايته الثالثة إلى شخص تكتيكي انتهازي. الحقيقة أن الأمر لا يعدو أن اللعبة التي يخوضها حالياً تشكل رحلة مظلمة نحو المجهول، ويبدو أنها تثير خوف من يعملون تحت إمرته - بل وربما بوتين نفسه - من حين لآخر.
ويميل البعض لوصف كل ما فعله بوتين منذ غزو القرم عام 2014، باعتباره سلسلة من التحركات الانتهازية الخاطئة. ويرى هؤلاء أنه استولى على القرم لأنه وجد أن بمقدوره فعل ذلك، وأشعل حرباً انفصالية شرق أوكرانيا، لأنه وجد ذلك يسيراً، ودخل إلى سوريا لأنه وجد ثمة فراغ هناك، وأدار حملات دعائية و«إجراءات نشطة» داخل المملكة المتحدة والولايات المتحدة ودول غربية أخرى؛ لأن هذه الدول لم تكن مستعدة لذلك، ودفع العاملين تحت قيادته إلى إقامة علاقات صداقة مع سياسيي تيار اليمين المتطرف بمختلف أرجاء أوروبا؛ لأنهم ببساطة كانوا بحاجة لأصدقاء، وفي حالة ماري لوبان في فرنسا، كانت هناك حاجة للمال أيضاً. الحقيقة أن بوتين مارس تأثيراً على الأشخاص والنتائج؛ لكنه لم يكسب أي أصدقاء جدد، وإنما في الواقع يبدو أنه اكتسب عداوات جديدة مع كل خطوة خطاها.
وللأسف من المحتمل أن تكون تلك لعبة بوتين الثالثة الطويلة، فهو لا يؤمن بأن هناك أي جوانب إيجابية للتعاون مع الغرب. وكثيراً ما كرر على مدار السنوات الأخيرة أن العقوبات المفروضة ضد روسيا لن يجري رفعها مهما فعلت بلاده. وعليه، يسعى بوتين الآن لإثبات أن الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، على درجة بالغة من الهشاشة؛ لدرجة أن أي دفعة مهما كانت صغيرة تفقدهم توازنهم. أما الجمهور المستهدف من وراء هذا العرض فباقي دول العالم النامي. ومن المفترض أن يبث ذلك الجرأة في نفوس دول آسيوية وشرق أوسطية وأميركية لاتينية، للوقوف في وجه الهيمنة الأميركية.
ويبدو أن هذه اللعبة ربما تنجح أحياناً، ففي الفلبين، يعتبر الرئيس رودريغو دوتيرتي من المعجبين ببوتين. وربما تفلح محاولات بوتين لإظهار ضعف الغرب داخل الصين أيضاً، التي يبدو على نحو متزايد أنها تخلت عن أي عزم للمضي قدماً باتجاه مزيد من الليبرالية.
أما الرد الأمثل من جانب الغرب على اللعبة التي يخوضها بوتين في الوقت الراهن، فيكمن في إثبات أن المؤسسات الديمقراطية لا تزال تعمل، وأنها لا تزال تعكس رغبات المواطنين، وأن الغرب لا يزال قادراً على العمل كقدوة وبوصلة أخلاقية أمام دول العالم النامي وكذلك الروس.
بيد أنه حتى الآن، تبدي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إخفاقاً في هذا الاختبار، في الوقت الذي يبدو فيه أداء دول الأجزاء الرئيسية من القارة الأوروبية أفضل، وإن كانت نقاط ضعفها أصبحت واضحة أمام العالم أجمع.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»