مروان المعشر
وزير الخارجية الأردني الأسبق
TT

الهوية والمواطنة

إحدى نتائج الثورات العربية الماثلة أمامنا بكل وضوح تآكل الدولة القطرية في أجزاء كثيرة من الوطن العربي، كليبيا وسوريا واليمن. حتى دول كالعراق ولبنان، تواجه أزمات حكم باتت فيها غير قادرة على السيطرة على كل أراضيها. وفي حين كانت الدول القطرية سابقاً تتوق للاندماج في أوعية أكبر، لتحقيق حلم القومية العربية بوطن عربي موحد، نشهد اليوم بروز لاعبين فاعلين ما دون الدولة، كـ«داعش» والميليشيات الشيعية في العراق و«حزب الله» في لبنان، باتوا يهددون ليس مفهوم الدولة القطرية وحده، ولكن أيضاً مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم المواطنة.
لا يأخذنا التحليل طويلاً لإدراك أن كثيراً من الدول القطرية في الوطن العربي كانت أوعية شبه فارغة، لأنها بنيت على أسس ضعيفة، وعلى تعظيم الهويات الفرعية على حساب الهويات الوطنية، فبدلاً من بناء المؤسسات الديمقراطية ومفاهيم حديثة للهويات الوطنية والمواطنة، استعيض عن ذلك بأنظمة فرضت الاستقرار الأمني بالقوة وبشكل مصطنع، أو اعتمدت المحاصصات الطائفية التي لا تنمي شعوراً حقيقياً بالمواطنة. وعندما وقعت الواقعة، لم تجد هذه الدول مؤسسات تحميها، ولا مواطنين يدينون بالولاء لدولهم وليس لطوائفهم أو هوياتهم الفرعية، فشهدت انهياراً سريعاً لأبنية هشة لم تحتمل الهزات التي اعترت بلادها. وباستثناء دول عربية قليلة، كمصر وتونس والمغرب، موجودة في المغرب العربي، حيث التنوع العرقي والديني فيها محدود، فإن دول المشرق العربي لم تنجح حتى اليوم في بناء هويات وطنية جامعة قادرة على الاحتفاء بتنوع الهويات الفرعية من جهة، وفي صهرها بهوية وطنية من جهة أخرى، تتقدم على كل الاختلافات العرقية والدينية وغيرها.
وكعادتنا في تحميل المشكلات لغيرنا، فقد حملنا الآخرين مشكلة ضعف الهوية الوطنية أيضاً. فـ«سايكس - بيكو» هي التي قسمت العالم العربي إلى دول قطرية وهويات فرعية، ولم نتوقف كثيراً لنسأل أنفسنا إن كنّا فعلنا الكثير لعكس آثار سايكس - بيكو، وقد احتفلنا العام الماضي بمئوية هذه المعاهدة سيئة الذكر. ويحلو للكثير اليوم تحميل تحديات «داعش» والاقتتال في سوريا واليمن وليبيا والعراق إلى الثورات العربية التي انطلقت عام 2011، والتي برأيهم زعزعت استقرار المنطقة، ولم نتوقف كثيراً لنسأل إن كان هذا الاستقرار طبيعياً أو مصطنعاً مفروضاً بقوة الأمن والسلاح، بدلاً من أن يكون مبنياً على دعائم راسخة مستدامة، كبناء المؤسسات وبناء الهويات الوطنية الجامعة أيضاً. ولم يسأل البعض إن كانت هذه الثورات سبباً مباشراً لضعف الحاكمية وهشاشة لحمة كثير من مكونات المجتمع المختلفة.
إن أردنا أن نبدأ بداية جديدة، علينا أولاً القيام بالتشخيص السليم، وإلا جاءت الحلول عاجزة عن معالجة التحديات؛ آمل أن يكون بديهياً القول إننا لا نستطيع العودة إلى ما قبل عام 2011، لأننا بذلك لا نكون قد تعلمنا شيئاً مما حدث، ومما قد يحدث مجدداً. فبعد هزة الربيع العربي، ونحن على مشارف نقلة أخرى، تتمثل في انتهاء النظام الريعي المثبط للإنتاجية والتقدم، هل نقرأ التاريخ جيداً، وندرك أن الاستقرار الحقيقي لا يعتمد على الأمن وحده، وإنما على التنمية أيضاً، وعلى مفهوم حداثي للهوية الوطنية الجامعة التي تسمو على أية هوية فرعية، وعلى مفهوم حداثي أيضاً للمواطنة، تشعر من خلاله مكونات المجتمع كافة بأن حقوقهم محفوظة لا يتغول عليها أحد، وعلى سيادة القانون وبناء متين لمؤسسات الدولة، يستطيع الصمود أمام كل الهزات لأنه سيجد مواطنين وليس أتباعاً مستعدين للوقوف يداً واحدة ضد الأخطار الخارجية، بدلاً من انشغالهم في صراعاتهم الداخلية؟ إن واحداً من أهم دروس الثورات العربية أن الأوطان لا تحمى إلا بالمؤسسات الراسخة، وبترسيخ مفهوم الهوية الجامعة.
حان الوقت كي تسمى الأشياء بأسمائها. وفي غياب مفهوم حداثي للهوية الجامعة، يسهل الحديث عن طوائف وأكثرية وأقليات، فيتم تعظيم الهوية الفرعية على تلك الوطنية، وينقسم الناس إلى «نحن» و«هم»، فتصبح «نحن» رديفة للصديق، و«هم» رديفة للعدو، فيما يفترض أن يكون الاثنان شركاء في وطن واحد.
وبالتالي، فلا مجال للحديث الجدي عن تطوير مفهوم حداثي للهوية الوطنية دون ربطه بالمواطنة المتساوية الحاضنة، لا المستوعبة فقط، للتنوع. وحين يطرح الموضوع في إطار المواطنة المتساوية للجميع المحتفية بتنوع المجتمع، تصبح الخلافات ليست ثانوية فقط، وإنما أيضاً مصدر قوة لمجتمع تعددي يحتضن كل الآراء والمذاهب. إن كل الاقتتالات في العالم العربي اليوم تمت وتتم في دول متعددة المكونات دون احترامها لهذه التعددية، من سوريا إلى لبنان والعراق واليمن وليبيا.
إن مبدأ تساوي كل المواطنين أمام القانون، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الفكر أو الجنس أو العدد أو الوضع الاجتماعي، وحده الكفيل بضمان طمأنة فئات المجتمع كافة بأن حقوقها الفردية والجماعية محفوظة، ما يؤدي إلى تأدية واجباتها نحو الدولة والمجتمع بكل أمانة ورضا، وإعلاء الهوية الوطنية الجامعة التي يشترك فيها كل مواطن فوق أية هويات فرعية.
لقد حان الوقت للاشتباك الإيجابي مع التعددية في مجتمعنا، واحتضانها وليس رفضها. إننا لا نزال غارقين في ثقافة سياسية ومجتمعية ينظر العلماني فيها للإسلامي كمتخلف عن العصر، والإسلامي للعلماني ككافر، والليبرالي للمحافظ كمتحجر، والمحافظ لليبرالي كخائن؛ هل نأمل حقاً في بناء وطن حداثي بهذه الطريقة؟!
لن يتم تطوير مثل هذا المفهوم الحداثي للمواطنة دون إعادة النظر الجذرية في مناهجنا التربوية. لقد كاد إصلاح التعليم في الوطن العربي يقتصر على مواضيع مثل إدخال الحواسيب إلى المدارس، وبناء المزيد من المدارس، وتحقيق معدلات عالمية أعلى في مناهج الرياضيات والعلوم؛ وكلها أمور ضرورية، ولكنها لم تنجح في بناء نشء يتعلم مهارات التفكير النقدي والمساءلة واحترام المكونات والأفكار الأخرى في المجتمع، وإدراك أن الحقيقة غالباً ما تكون نسبية، وليست مطلقة. وما تشهده المنطقة اليوم من انغلاق فكري وديني قد يكون أوصلنا لمرحلة بدأ يتكشف فيها لُب الموضوع. فتقوية قدرات الطلاب في الرياضيات والعلوم لا يعني الكثير، إن لم يرافقه تطوير للكيفية التي يتعلم فيها الطلاب هذه المواد، وإن لم يرافقه تطوير موازٍ للمهارات المطلوبة، من تفكير نقدي واحترام للتعددية والآراء والثقافات والأديان الأخرى؛ مناهجنا التربوية تعاني اليوم من غياب المحتوى الإيجابي الإدماجي بقدر ما تعاني من حضور المحتوى السلبي الإقصائي.
ولطالما حذرت أقلام وتربويون من ثقافة إقصائية موجودة في مناهجنا؛ ثقافة تعظم الذات وتقزم الآخر، ثقافة تعاني من غياب القيم الإيجابية التي تحترم وتحتفي بالتنوع الديني والثقافي والفكري في المجتمع بالقدر الذي تعاني منه من حضور القيم الإقصائية التي تعترف فقط بحقيقة واحدة ومنظومة قيمية لا مكان فيها للآخر. كم نحن بحاجة لثقافة لا تعرف المواطنة على أساس العلاقة بين الدولة والناس فقط، وإنما أيضاً بعلاقة اللحمة بين الناس أنفسهم، رغم تنوعهم.
حان الوقت لوقفة مع النفس: أي مجتمع عربي نريد؟ هل هو مجتمع مدني ديمقراطي تعددي أم مجتمع أبوي سلطوي؟ هل هو مجتمع يحترم تعددية الآراء والأديان أم مجتمع يعتبر التنوع والاختلاف جريمة أو خيانة؟ هل هو مجتمع يحتفي بالهويات الفرعية فقط ضمن إطار الهوية الجامعة أم مجتمع يعتمد على إعلاء بعض هذه الهويات فوق الأخرى؟ هل لدينا إجابات واضحة على هذه الأسئلة المفصلية؟ وما نحن فاعلون تجاه ما نريد؟ هل نكتفي بالأحلام أو بإلقاء اللوم على سايكس - بيكو بعد قرن من الزمان؟ ولنفرض أن سايكس - بيكو لم تكن، هل كانت دولنا اليوم تحترم التعددية؟ وهل كانت حقوق المرأة مصانة؟ وهل كان السني والشيعي والمسلم والمسيحي والعربي والكردي والأمازيغي والأرمني والشركسي ينظرون لبعضهم بعضاً نظرة متساوية؟ وهل كانت دولنا تنظر لهم كأسنان المشط؟
هناك ضرورة بالغة اليوم لعقد اجتماعي جديد يتم التوصل إليه بين مكونات المجتمع نفسه، من خلال حوار وطني جاد لا يخوّن ولا يكفّر، بل يعمل لضمان حقوق مكونات المجتمع كافة، ولتكن المواطنة المتساوية الحاضنة للتنوع الإطار العريض الذي يحكم مجتمعنا. وقتها فقط نحقق الانسجام مع النفس، ونوحد الجهود، لا الآراء، نحو مستقبل أكثر إشراقاً.
* وزير الخارجية الأردني الأسبق
*خاص بـ«الشرق الأوسط»