بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

بلفور... إحياء أم احتفاء؟

يبدو أن ما أبداه الفلسطينيون من غضب تجاه اعتزام الحكومة البريطانية إحياء مئوية «وعد بلفور» بطريقة احتفالية، أثمر محاولة استرضائية أقدم عليها بوريس جونسون، وزير الخارجية، عبر مقال نشرته «ديلي تلغراف» الاثنين الماضي، خلاصته دعوة لإنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. كلام مكرر عن حل الدولتين، أخذ ساسة مختلف دول العالم، خصوصاً الغربي، على عاتقهم تكراره منذ ما بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد (1978) بين مصر وإسرائيل، إنما بلا سعي جاد لوضعه موضع التنفيذ.
عندما بدأ مسؤولون في السلطة الفلسطينية التعبير عن غضبهم قبل بضعة أشهر، ساورني إحساس حيرة إزاء فهم مبرر ذلك الغضب. تذكرت أنني، كما كل أترابي، حرصت منذ الصف الأول الابتدائي على الاستعداد لإحياء ذكرى «الوعد المشؤوم» في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) كل سنة. موضوع الإنشاء يجب أن يتناول المناسبة. خطابات التلاميذ النجباء سوف تدور حول الموضوع. مسيرات في الشوارع وهتافات تلعن «الوعد» وصاحبه. لذا، وجدتني أتساءل: لماذا كل هذا الغضب الفلسطيني، طالما أن الفلسطينيين أنفسهم يحيون المناسبة منذ أرسل آرثر بلفور، وزير خارجية حكومة ديفيد لويد يوم 2-11-1917 إلى لورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، وهو زمنذاك كبير الجالية اليهودية في بريطانيا، الرسالة التالية: «عزيزي اللورد روتشيلد، يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر. وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح. المخلص آرثر جيمس بلفور».
بعد متابعة ما تردد من تصريحات فلسطينية، وردود الفعل البريطانية تجاهها، لم تعد الحيرة قائمة. واضح أن للغضب الفلسطيني ما يبرره. الفرق كبير بين إحياء أي مناسبة وبين الاحتفاء بها. هل كانت السيدة تيريزا ماي مضطرة لإعطاء حديثها عن مناسبة مرور مائة عام على ذلك «التصريح» أو «الإعلان» - التسمية الأصح - طابع التباهي بتحقيق انتصار بريطاني ما؟ كلا، بالطبع. وهل إن دعوتها بنيامين نتنياهو، أحد أكثر رؤساء حكومات إسرائيل إنكاراً لحقوق الفلسطينيين، إلى حفل عشاء خاص بالمناسبة، يوم الجمعة المقبل، ضرورية؟ كلا، أيضاً. الواقع أن أي مظهر احتفالي من جانب بريطانيا الرسمية بتلك المناسبة هو تصرف استفزازي حتى في الظروف العادية، فكيف والمنطقة تغلي بفتن، وتستعر بحروب، تتطلب من عواصم عالمية، كما لندن، كل ما لدى حكمائها من حكمة القرار وحُسن التصرف؟
أكثر من ذلك، غير مفهوم ما الذي يُراد الاحتفاء به من جانب الحكومة البريطانية؟ هل يُحتفى بحقيقة أن بريطانيا ذاتها خانت روح ذلك التصريح، عندما فتحت أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية، وغضت النظر عن تسلّح عصابات إرهابية لم تتردد في قتل جنودها، ثم إنها تخلت عن مجمل مسؤوليات الانتداب بانسحابها المفاجئ من فلسطين. أين هو مبرر الاحتفاء، إذن، أمام هكذا سجل؟
ليس ثمة ما يبرر أي احتفاء، بل العكس هو الأصح. الأوجب هو أن تقدم بريطانيا على ما يصحح أخطاءها في فلسطين، لا أن تحتفي بها. صحيح أن الشخص يموت، يُوارى جسدٌ الثرى، أو يُذرُ رماد بدنٍ حيثما أوصى لابِسُه سنيَّ عمره، لكن أفعال الإنسان تستعصي على النسيان. ألم يقل السلف ما مضمونه إن لكل امرئ من أثر العمل ما سوف يُذكِّر الناس به؟ بلى. سعيد الحظ إذا ورد ذكره بالخير، ترّحم الملأ على روح غادرته إلى بارئها، أما الشقي فذاك الذي ما أن يذكر أحدهم اسمه أمام جمع حتى يسارع الآخرون للتعوّذ من شرّ ما خلّف وراءه من سوء العمل. سيرة الأسكوتلندي آرثر بلفور، فلسطينياً، لا تذكّر بأي خير، فهل تقدم لندن على عمل شيء حقيقي، وليس مجرد مقالة في صحيفة، يكفّر عن سيئات سيرته؟ لعل وعسى.