خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

تاليران ذلك الوزير الظريف

من أروع وأظرف من ظهر على مسرح السياسة الأوروبية تاليران، الوزير المخضرم الذي خدم العهد الملكي وعهد الثورة وعهد نابليون. أصبحت شخصيته نمطاً يحتذى في الدهاء والحذق الدبلوماسي والمراوغة السياسية. ولا عجب، فقد عاش في زمن الثورة الفرنسية، واستطاع أن ينال رضا الملكيين والجمهوريين على السواء، وظل يعمل لكلا الطرفين. مهما تغيرت الظروف، خرج منها سالماً معززاً، حتى أن المدام دوستال، تلك الشخصية الأدبية الساخرة، وصفته يوماً فقالت إنه كالدمى الصغيرة المصنوعة على هيئة الجنود ليلهو بها الأطفال؛ رؤوسها خفيفة من الفلين ولكن أرجلها من الرصاص، مهما ترمي بها تقف على أقدامها. ووصف أحدهم صلافته بالقول: «إذا تلقى تاليران صفعة في قفاه، فإنك لا تلاحظ أي شيء على وجهه».
الحقيقة أن هذه إشارة في مكانها. فقد كان تاليران أعرج، يعاني من عيب في ساقيه، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يصبح مثالاً للأناقة. إنه دبلوماسي من قمة رأسه إلى أخمص قدميه. سأله أحد الصحافيين عن الإشاعة التي وصلت إلى فرنسا من إنجلترا بأن جورج الثالث، ملك بريطانيا، قد مات. فأجابه تاليران: «البعض يقولون إن ملك إنجلترا قد مات، والبعض الآخر يقولون إنه لم يمت؛ أنا شخصياً لا أصدق هؤلاء ولا أولئك، وأقول ذلك كسر شخصي بيني وبينك؛ أرجو ألا تورطني بشيء»!
كان تاليران مديناً للكثيرين، ولكنه استعمل براعته الدبلوماسية بمهارة فائقة في التخلص منهم. وقف له أحدهم أمام باب مكتبه، وقال له: «مسيو تاليران، لن أبرح هذا المكان حتى أحصل على ديني منك»، فربت السياسي الأعرج على كتفيه، وقال: «إنك والله أعظم رجل عرفته في الثبات وقوة الإرادة»، ثم مضى تاليران في طريقه تاركاً الدائن مشدوهاً، بل وممتناً. أشرنا إلى العرج الذي كان يعاني منه، وقد حاولت سيدة في عينيها حول أن تعرض بعرج رجليه، فقالت له: «كيف ماشية الأمور عندك؟»، فأجابها قائلاً: «مثل ما بتشوفين»!
هذا مثل عابر عن براعة لسانه ودقة ظرفه، فله أقوال بليغة ذائعة، منها قوله: «الكلام أعطي للإنسان لإخفاء فكره»، وهو قول ينطبق تماماً على شخصيته. وقال: «إن سمعة الرجل مثل ظله؛ ضخمة إذا سبقته، هزيلة إذا جاءت وراءه». وقال عندما سمع بإعدام الدوق دانجيان: «هذا رجل كان أسوأ من الجريمة؛ إنه غلطة»!
وشغل تاليران منصب وزير الخارجية لعدة حكومات، على اختلاف مشاربها ومبادئها. وقد التفت إلى ذلك، فحذر إحداها بقوله: «أنا أحمل الشؤم للحكومات التي تهملني»!
ولكنه كان صادقاً، ولم يخدع أحداً، كما أرى. كان نابليون يطمح للزواج بابنة القيصر الروسي، فاصطحب تاليران معه لخطبتها من والدها. بيد أن القيصر كان أبرع من نابليون، فاختلى بتاليران برهة قصيرة، وسأله عن رأيه الخاص في هذه الزيجة، فأشار له بأن أمثال نابليون لا ثبات لهم؛ وصدق في نصيحته. ولكن نابليون أحس بمخادعة وزيره، فانتهز فرصة بعد عودته لباريس وسدد له صفعة في قفاه! وأبقاه في منصبه.