غسان شربل
رئيس تحرير «الشرق الأوسط»
TT

ما بعد موعد الكرملين

عوامل كثيرة تدفع الصحافي الذي وفد إلى موسكو لتغطية القمة السعودية - الروسية إلى وصفها بالحدث الاستثنائي. إنها المرة الأولى التي يدخل فيها عاهل سعودي قصر الكرملين. وبدا واضحاً أن حرص الرئيس فلاديمير بوتين على إحاطة ضيفه بحفاوة غير عادية يعكس رغبة موسكو في أن تشكل الزيارة إشارة الانطلاق في علاقة قوية وعميقة تخدم مصالح البلدين.
لا يقتصر الأمر على القيمة الرمزية التي يشكلها دخول الملك سلمان بن عبد العزيز الكرملين. للموعد أهميته أيضاً انطلاقاً من وقائع اقتصادية وسياسية. إننا نتحدث عن الدولتين اللتين تتصدران لائحة الدول المصدرة للنفط. عن دولتين في «مجموعة العشرين» وما يعنيه ذلك اقتصاديا وسياسيا.
ليس سراً أن كلاً من الدولتين تدرك أهمية الأخرى وأوراق قوتها. روسيا دولة عريقة تجاوزت آثار انهيار الاتحاد السوفياتي وعادت قوة كبرى دينامية الحضور والتأثير على المسرح الدولي. ثم إن روسيا تحولت قبل عامين بفعل تدخلها العسكري في سوريا لاعباً يومياً بارزاً على مسرح الشرق الأوسط وإلى درجة الظهور في صورة المعبر الإلزامي والوحيد للحل في سوريا. وروسيا عضو دائم في مجلس الأمن وتملك فيه القدرة على إسقاط القرارات باستخدام سيف «الفيتو» أو تمريرها. ولم تتردد موسكو في السنوات الأخيرة في التذكير بقدرتها على استخدام حق النقض.
روسيا أيضاً دولة نووية. ودولة قطعت أشواطاً بعيدة في التقدم العلمي والتكنولوجي منذ اختارت مبارزة الغرب في غزو الفضاء. ولا يصح أن ننسى أن هذه البلاد التي تنام طويلاً تحت الثلج كل عام تنام أيضاً على ثروة من المناجم الثقافية لا تقتصر على تلك الروايات الباهرة التي تتحدى عقاب الشيخوخة والزمن. وروسيا الاتحادية معنية بالمسلمين الذين يشكلون جزءاً من شعبها وتاريخها ومعنية أيضاً بالمسلمين الذين تحولوا جيراناً لها بعد تمزق العباءة السوفياتية.
في المقابل تدرك روسيا أهمية السعودية وثقلها الاقتصادي والسياسي ورصيدها الواسع عربياً وإسلامياً ودولياً. وتدرك أيضاً أن السعودية تملك القدرة على القرار في بناء علاقات متنوعة انطلاقاً من مصالحها. فـ«الشراكة الاستراتيجية» مع أميركا والعلاقات الواعدة مع الصين واليابان ودول كثيرة لا تحول دون قيام علاقات قوية مع روسيا. ولعل التدخل العسكري الروسي في سوريا ضاعف شعور موسكو بحجم الدور الذي يمكن أن تضطلع به الرياض في بناء أي سلام عادل وتسويات منصفة.
يضاف إلى ما تقدم شعور الجانب الروسي بأن «سعودية جديدة وقوية في طور التشكل» وأن «رؤية 2030 تعد بتحولات اقتصادية واجتماعية لن تقف آثارها عند الحدود السعودية». ولا يخفي الجانب الروسي ارتياحه إلى «انتقال السعودية من التصدي للإرهابيين إلى الحرب الشاملة على التطرف وأسبابه وجذوره وهو ما يشكل جسراً كبيراً بيننا».
لم يعد التطابق في السياسات شرطاً للعلاقات في العالم الحالي. كانت تجربة التعاون السعودي - الروسي لاستقرار سوق النفط أكثر من مشجعة. اكتشف البلدان في العامين الأخيرين أن التبادل التجاري المتواضع بينهما لا يتناسب مع حجم الفرص المتاحة في البلدين اللذين يسعيان إلى تنويع اقتصاديهما وتجاوز مرحلة الإدمان التي يشكلها الاعتماد على النفط وحده. كان لا بد من مقاربة جديدة للعلاقات بين البلدين على رغم التباين حول الملف السوري. وكان لمحادثات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان دورها الحاسم في إطلاق حوار المصالح والتبادل. إنها سياسة بناء الجسور واستكشاف فرص الاستثمار والتعاون وبما يخدم الطرفين ويعزز القدرة على معالجة مواضيع التباين.
كانت الرغبة المشتركة في فتح صفحة جديدة في التعاون واضحة منذ البداية. حمل المسؤولون والمستثمرون السعوديون معهم دراسات تفصيلية واقعية ومقنعة تركت صدى إيجابياً لدى الجانب الروسي وأوحت أن المستقبل يحمل ما يتجاوز ما وقع من اتفاقات.
الحرص الروسي على إنجاح القمة كان ظاهراً. عشية الزيارة توقع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، أن تشكل القمة انعطافة حقيقية في علاقات البلدين تنقل التعاون بينهما «إلى مستوى جديد تماماً»، بما يحقق «مساهمة عميقة الفائدة في استقرار منطقة الشرق الأوسط». قال أيضاً إن «دولتينا تنطلقان من أنه لا يوجد بديل لحل الأزمات الإقليمية بطرق سياسية ودبلوماسية عبر حوار وطني شامل على أساس القانون الدولي».
الاقتصاد هو المفتاح والمصالح هي الوسادة الحقيقية. لم يعد ممكناً بناء العلاقات على التمنيات أو التلاقي الظرفي على مواقف سياسية. تدرك روسيا بوتين أن الاقتصاد هو أقوى الجنرالات في معارك الزمن المقبل. وأن الاقتصاد المزدهر هو الضمانة للموقع وكذلك للاستقرار وللقدرة على التنافس وحتى على تأمين متطلبات الآلة العسكرية. من دون اقتصاد قوي تتراجع قدرات الجيوش وتنحسر معها الأدوار. ومن أجل ذلك الاقتصاد لا بد من استكشاف الفرص وتأسيس العلاقات على المصالح وتطوير التعليم وامتلاك التكنولوجيا الحديثة وتبادل الخبرات وفتح آفاق التطور.
كان الموعد في الكرملين استثنائياً. بلدان يستكشفان آفاق التعاون بلغة الأرقام والمصالح المشتركة والرغبة في بناء الجسور. ويبقى الامتحان الأهم هو ما ستحققه العلاقات في مرحلة ما بعد موعد الكرملين.