أحمد محمود عجاج
TT

تركيا وأوروبا الليبرالية: التعايش أو التصادم!

إردوغان، هذه الأيام، لديه مشكلة مع أوروبا، ومع أميركا، ولربما مع معظم بلدان العالم المهمة؛ لكن أخطر مشكلة يعاني منها إردوغان، هي كراهيته للنقد، وتحول ذلك إلى عقدة هوس ستحمله حتماً على ارتكاب أخطاء استراتيجية لها تداعيات سلبية على بلاده، وعلى الآيديولوجيا الإسلامية. ولعل مطالبة الرئيس إردوغان الإنتربول الدولي مؤخراً باعتقال الكاتب التركي دوغان أخنلي، وتسليمه للسلطات التركية مثال حي على تلك التداعيات السلبية. فالصحافي أخنلي غادر تركيا في عام 1991 بعد قضائه فترة سجن مدتها سنتان في تركيا لكتابته، في بداية الثمانينات إبان حكم العسكر بقيادة الجنرال إيفرين كنعان، مقالات نقدية عن القضية الأرمنية. وقد أثار توقيف السلطات الإسبانية للصحافي المذكور حفيظة الكتّاب والصحافيين في أوروبا، فسارعت عصبة الكتّاب الألمان، وجمعية الكتّاب السويديين للمطالبة بإطلاق سراحه، وعدم تسليمه إلى تركيا! وانضمت المستشارة الألمانية ميركل ووزير خارجيتها إلى هذه المطالبة وأكدت ميركل أنه يجب ألا يساء استخدام الإنتربول الدولي لتحقيق أهداف وغايات سياسية! لكن إردوغان لم يرَ القضية هكذا، مع أن الصحافي يحمل الجنسية الألمانية، بل حنق على ميركل وعلى مسؤولين ألمان آخرين، وناشد المواطنين الألمان من أصول تركية معاقبة ميركل في الانتخابات القادمة، وتلقينها درسا في الديمقراطية!
إردوغان يريد من المواطنين الألمان الأتراك أن يؤيدوه ويعاقبوا ميركل لأنها فقط تقف ضده وتدافع عن مواطن ألماني من أصل تركي! هو يريد من مؤيديه في ألمانيا أن يكون ولاؤهم له وليس للوطن الألماني! ولا يعنيه، كما يبدو، تداعيات ذلك على مستقبل هؤلاء الأتراك في الوطن الألماني! كذلك يطالب إردوغان أوروبا وبالتحديد ألمانيا بألا تتدخل في الشأن التركي، لكنه يبرر، بالمقابل، لنفسه التدخل في الانتخابات الألمانية!
رغم ذلك كله، ثمة فارق بين تدخله، وتدخل ميركل؛ فالمستشارة الألمانية لا تدعو الأتراك للوقوف ضد إردوغان، إنما تدعو إردوغان إلى الالتزام بالمسار الديمقراطي، ودعوتها نابعة من أن تركيا تريد الانضمام إلى الاتحاد، وقد التزمت تركيا (سابقاً) بكثير من مبادئ وإجراءات الاتحاد الأوروبي وبالتحديد في قضايا حقوق الإنسان، وبقي عليها التزامات أخرى لا بد منها لكي تُقبل في الاتحاد الأوروبي. فقد طالبت ميركل إردوغان أن يلتزم الدستور، وأن يحترم حقوق الإنسان، وفق المعايير الأوروبية، وانتقدته لتضييقه حرية التعبير، وإغلاق الصحف وما شابه! هذه الانتقادات مشروعة في الاتحاد الأوروبي، لأن الاتحاد وقف ولا يزال ضد أي انتهاكات داخل كيانه، فاعترض على مسار الحكومة البولندية اليميني المتشدد، وكذلك على حكومة فيكتور أوربان المتشدد في هنغاريا، ولم يعترف بحكومة يشارك فيها زعيم حزب الحرية المتطرف يورك هادير في أعقاب الانتخابات النمساوية عام 2000!
توجد بلا شك مظالم بحق تركيا يتحمل وزرها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكنها لا ترتقي لمستوى يبرر نسف جسور العلاقات؛ فتركيا ما كانت لتتقدم، وتصبح دولة نامية (نسبياً)، ما لم تحظَ بامتيازات، وتنازلات قدمتها أوروبا، وشجعت عليها أميركا؛ ولا ننسى أن إردوغان كان، للأمس القريب، محبوب الأوروبيين، ونموذج الإسلام المعتدل في عيون الأميركيين! فما الذي تغير؟!
إن الذي تغير ليس أوروبا بل إردوغان؛ فأوروبا تريد من تركيا أن تكون صورة عنها، وتريدها أن تؤمن بعولمة السوق، وما تحمله من منظومة القيم، وأن تبتعد قدر ما أمكن عن حشر الدين في الدولة؛ فأوروبا ترى أنه في هذه اللحظة الحساسة بالذات، ومع وصول الرئيس ترمب للسلطة، وظهور بوتين، ثمة خطر حقيقي على النظام الليبرالي العالمي الذي نقل أوروبا من حروب الاقتتال إلى ساحات التلاقي والسلم والأمن؛ لذلك ترى أوروبا، وبالتحديد ألمانيا وبعض الدول الأوروبية المؤمنة بالليبرالية، في سياسات إردوغان خطراً على أمنها، وعلى منظومتها الثقافية الأوروبية. ويبدو أن أسلمة إردوغان للمجتمع، وإقصاء أسس النظام العلماني، والانفتاح على الروس، وموقفه من الأكراد، لا يجد ترحاباً في أوروبا التي تحاول هي الأخرى مجابهة اليمين المتطرف (القومي الديني) على أراضيها، وتجد نفسها في مجابهة مع الرئيس الروسي بوتين المؤمن بالمبدأ القومي الديني، والذي يتمدد عسكرياً في أوروبا وفي منطقة الشرق الأوسط.
لا شك أن تركيا وأوروبا تقفان على مفترق طرق؛ أوروبا الليبرالية، المنفتحة، التي منذ الحرب العالمية الثانية، أصبحت مثالاً للتعايش وحقوق الإنسان، وتركيا الطالعة من علمانية مغلقة إلى انفتاح واستعادة لهويتها الإسلامية! ويعتقد إردوغان، كما يبدو، من منظار نموذجه الإسلامي، أن أوروبا بحكم كونها أوروبا (تاريخياً) هي ضده. وترى أوروبا بالمقابل بحكم أنها ليبرالية، في نموذجه (الإسلامي) عودة إلى التاريخ البائد! لذلك فإن إصرار إردوغان على رفع وتيرة التحدي، ومطالبة أنصاره بالتصويت ضد المستشارة الألمانية، يعتبر هدماً لنموذج أوروبي يتأسس على الولاء للوطن الترابي، ومبدأ السيادة، ورفض الولاء الديني العابر للحدود! ويرى إردوغان أن أوروبا، برفضها نموذجه، تكشف عن عدم تقبلها للإسلام، وأن انتقادها لتضييقه الحريات، ومنها قضية الصحافي أخنلي، هدفها زعزعة استقرار حكمه، وتشويه سمعته!
إن إردوغان وأوروبا ينظران لبعضهما بريبة، لكنهما يعرفان أن نموذجيهما متعايشان بقدر ما هما متصادمان؛ فأوروبا عندما تخلصت من القومية الدينية، وآمنت بمبادئ إنسانية، وكذلك عندما تخلصت تركيا من علمانية قاسية، وانفتحت على أفق أوسع، تعايشتا، وازدهرتا معاً. لكن إذا ما استمر إردوغان في نهج قولبة الدولة، وموقفه من الحريات، وتعظيم حكم الفرد؛ واستمرت كذلك أوروبا بهاجس الخوف من الإسلام، وبالتضييق على تركيا، ورفض دخولها العائلة الأوروبية، فإن التصادم واقع، وستكون تركيا هي الخاسر، ومعها نموذجها الوليد.