ديمتري ترينين
*مدير مركز كارنيغي للأبحاث الإستراتيجية/ موسكو
TT

هل روسيا أفضل فرص الولايات المتحدة مع كوريا الشمالية؟

تبدو روسيا، في المعتاد، غير ذات أهمية قصوى فيما يتعلق بأغلب المناقشات التي تدور حول الأزمة النووية لكوريا الشمالية، بيد أنها في وضع فريد من نوعه للمساعدة في التخفيف من حدة التصعيد والتوترات في هذا الصدد.
وعلى الرغم من تصاعد التوترات الثنائية بين موسكو وواشنطن في الآونة الأخيرة – إثر التدخلات العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم وفي سوريا، مع اعتبار مبادئ النظام العالمي الراهن – فلقد صوتت روسيا مرتين متتاليتين خلال الأسابيع الأخيرة في الأمم المتحدة لصالح فرض العقوبات على كوريا الشمالية. وفي صيف عام 2015، وفي خضم الأزمة المتعلقة بأوكرانيا، اتخذت موسكو سبيل الحذر من عدم القيام بأي تصرف، من شأنه عرقلة جهود إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لإبرام الاتفاق النووي مع إيران.
وروسيا، بعبارة أخرى، ليست من العناصر المفسدة كما وصفت في كثير من الأحيان في السنوات الأخيرة. بل إنها تلعب دورها السياسي بكل ذكاء وبراعة مع واشنطن – وهي تعتمد في أغلب الأحيان سياسة الخصم العنيد، ولا سيما في الآونة الأخيرة، لكنها تقوم بدور تعاوني وإيجابي في أحيان أخرى. وهناك أسباب وجيهة تدعوها للمساعدة والتعاون في أزمة كوريا الشمالية.
وفي معرض أي مناقشات تتعلق بكيفية التعامل مع الأعمال العدائية من جانب زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، فإن الانتباه دائماً ما يتجه صوب الصين. فهناك حالة من التحالف الوثيق وطويل الأمد يجمع بكين وبيونغ يانغ، والصين هي الشريك التجاري الأول والأكبر لكوريا الشمالية حالياً. لكن لجملة من الأسباب الاستراتيجية المهمة، فهناك حدود معتبرة لما يمكن لبكين القيام به في خضم الأزمة الراهنة. فهناك شعور بالقلق في الصين من تداعيات انفجار الأوضاع أو انهيار النظام في كوريا الشمالية، وترغب بكين في المحافظة على وجود الحاجز الافتراضي القائم بينها وبين قوات الولايات المتحدة الأميركية المنتشرة في كوريا الجنوبية.
وعلى غرار الصين، فإن روسيا من القوى النووية الدولية الكبيرة، وهي من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، وتجمعها حدود مشتركة كذلك مع كوريا الشمالية، كما أن هناك قنوات اتصال قائمة بين العاصمتين. وخلال الحرب العالمية الثانية، خدم كيم إيل سونغ (جد الزعيم الحالي كيم جونغ أون) في رتبة النقيب في الجيش الأحمر السوفياتي، كما تعددت زيارات كيم جونغ إيل (والد الزعيم الكوري الحالي) إلى روسيا في أوائل عام 2000، كما زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه العاصمة بيونغ يانغ في العام نفسه. وعلى الرغم من إخفاق الرئيس الروسي في الحصول على اتفاق يقضي بالحد من برنامج الصواريخ الباليستية في كوريا الشمالية في ذلك الوقت، فإن زيارته قد ساعدت في استعادة العلاقات الروسية مع بيونغ يانغ، تلك العلاقات التي كان مصيرها التجاهل التام في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي الأسبق.
وليست روسيا من الدول الأكثر تأثراً أو الأقرب تضرراً جراء الطموحات النووية لدى كوريا الشمالية، كما هو الأمر في الولايات المتحدة الأميركية، أو كوريا الجنوبية، أو حتى الصين. وعلى العكس من الصين، لم تكن روسيا أبداً من القوى الإمبريالية على شبه الجزيرة الكورية. وقد يكون النفوذ الروسي المباشر مع بيونغ يانغ أقل منه لدى بكين، كما أنها تثير قدراً طفيفاً للغاية من الاستياء أو الشكوك القومية بين الشعب الكوري الشمالي.
لدى روسيا، كذلك، مصالح واضحة وعاجلة لمد يد المساعدة والتخفيف من حدة التصعيد في الأزمة الحالية. إذ تقع مدينة فلاديفوستوك الساحلية - البوابة الروسية إلى إقليم آسيا - المحيط الهادئ، ومقر أسطول المحيط الهادئ الروسي، ومركز تجارة الطاقة - على مبعدة بضع مئات من الأميال من الكثير من المواقع النووية وقواعد الصواريخ الكورية الشمالية. وأي خلل أو حادثة عابرة قد تقع في التجارب النووية أو تجارب إطلاق الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية قد تعني التلوث الإشعاعي في روسيا نفسها. والحكومة الروسية حريصة كل الحرص على وقف زيادة نشر أنظمة الدفاع الصاروخي الأميركية في كوريا الجنوبية واليابان؛ الأمر الذي تسعى كلتا الدولتين إلى التأكيد عليه بغية حماية الذات من سلوكيات بيونغ يانغ الرعناء.
لن تعمد كوريا الشمالية إلى النزع الذاتي لقدراتها النووية، فلقد فات الأوان على ذلك. كما أنه لن يتم الاعتراف بها رسمياً كقوة نووية دولية. لكنها في خاتمة المطاف سوف تحصل على أسلحة نووية حقيقية يمكنها استخدامها في استهداف أراضي الولايات المتحدة الأميركية.
والعقوبات الدولية، بصرف النظر تماماً عن مدى صرامتها أو قسوتها، لن تحول بين بيونغ يانغ وبين السعي لإتمام برنامجها النووي أو الصاروخي، الذي تعتبره كوريا الشمالية مفتاح البقاء على قيد الحياة، كما صرح بذلك الرئيس الروسي مؤخراً؛ إذ قال: «سوف يأكل الشعب الكوري الشمالي الحشائش والأعشاب قبل أن يتخلى عن أسلحته النووية». وكان الإطلاق الصاروخي الأخير من جانب كوريا الشمالية بمثابة توبيخ للولايات المتحدة على حزمة العقوبات الجديدة، ولا سيما على واردات النفط، تلك التي صادق مجلس الأمن على تمريرها مؤخراً.
بيد أن هذا لا يعني أن فرض العقوبات هو خطأ بأي صورة من الصور. فهي من أبرز التعبيرات الواضحة عن حالة الإدانة الجماعية التي يعلنها المجتمع الدولي إزاء كوريا الشمالية؛ فضلاً عن كونها تأكيداً مزيداً على الهدف العام من منع انتشار الأسلحة النووية. لكنها، أي العقوبات، لن تدفع كوريا الشمالية بحال إلى نزع أسلحتها النووية ذاتياً.
والحصار التام للبلاد قد يدفعها للتفكير في هذا المسار، لكن مجرد المحاولة تحيط بها الكثير من المخاطر المعتبرة. فقد يؤدي الأمر بكوريا الشمالية إلى شن حرب شعواء، أو التسبب في انهيار النظام الحاكم هناك، الاحتمال الخطير الذي لن تتحمله الصين أو تقبل به قط.
وبالتالي، فإن الاستراتيجية الوحيدة الجديرة بالنظر والاعتبار هي إقناع القيادة الكورية الشمالية بحصولها الفعلي على إمكانات الردع التي تريدها، وأن المضي قدماً لما وراء هذه المرحلة – عبر تطوير المزيد من الأسلحة النووية والصواريخ طويلة المدى – لن يرجع إلا بنتائج عكسية.
وهنا يبرز الدور الروسي المنشود في الأزمة: إذ يمكن لموسكو المساعدة في حث بيونغ يانغ على مزيد من ضبط النفس الاستراتيجي، والمساعدة كذلك في نزع فتيل التصعيد والتوترات في نفس الوقت من خلال تقديم آفاق اقتصادية جديدة ومشجعة.
وأحد المشروعات التي نوقشت في الماضي يتعلق ببناء خطوط أنابيب الغاز من روسيا صوب كوريا الجنوبية مروراً بكوريا الشمالية. وهناك مشروع آخر يدور حول استعادة خط السكك الحديدية القديم الذي كان يربط كوريا الجنوبية مع منطقة سيبيريا الروسية مترامية الأطراف. ومن شأن المشروعين المطروحين أن يولدا رسوم العبور التجارية بالعملات الأجنبية لكوريا الشمالية. وكتعبير آخر عن حسن النوايا، يمكن للحكومة الروسية أيضاً السماح لأعداد أكبر من العمالة الكورية الشمالية بالدخول والعمل في الأقاليم الروسية الشرقية: وهناك بالفعل مع يقرب من 30 إلى 50 ألف عامل من كوريا الشمالية يباشرون أعمالهم في روسيا، وأغلبهم من عمال التشييد والبناء، وغير ذلك من الأعمال.
ويحقق الاقتصاد الكوري الشمالي معدلات أداء أفضل مما هو شائع عنه دولياً. إذ حقق الناتج المحلي الإجمالي نمواً ملحوظاً في الآونة الأخيرة بنسبة 3.9 في المائة بين عامي 2016 و2017 – كما أن هناك نمواً لقوى السوق في مجالات التجارة والمواد الغذائية والعقارات على سبيل المثال. مما يعني أن كوريا الشمالية لن تكون قادرة على تحمل العقوبات الاقتصادية الدولية فحسب، لكن يمكن لبوادر الانفتاح الاقتصادي أن تسرع من وتيرة التحولات الداخلية – وربما تؤدي بمرور الوقت إلى تهدئة مواقف بيونغ يانغ الصارمة على الصعيد الدولي.
سوف تحتاج واشنطن وبيونغ يانغ، عند مرحلة ما، إلى استعادة المحادثات الثنائية المباشرة. لكن مع عدم الاستعداد المعلن من كلا الجانبين حالياً على هذا المسار، فقد تكون الصورة الأولى لتنظيم مثل هذه الاتصالات عبر دولة ثالثة معنية. وفي الأثناء ذاتها، فإن التخفيف من حدة التصعيد والتوتر هو القضية السائدة في الوقت الراهن، وروسيا هي أحد أبرز الوسطاء غير المحتملين على هذا المسار المهم.
*مدير مركز كارنيغي للأبحاث الإستراتيجية/ موسكو
* خدمة «نيويورك تايمز»