TT

أميركا اللاتينية بين الشعار والمشروع

فنزويلا، بلاد تختزل ما فوق الأرض وتحتها. الهنود الحمر اعتقدوا أن الأرض كائن حي، في قاعها يعيش أجدادهم وآباؤهم يأكلون ويشربون، يرقصون ويقاتلون ويلاحقون قطعانهم. الحياة فوق الأرض تتكامل وتمضي مع الحياة تحتها. [فنزويلا] البلاد التي تتحرك فوق أضخم مخزون نفطي في العالم، تعيش اليوم مجاعة حقيقية، وحرباً نارها (الشعار). بلاد تختزل تاريخ قارة، هي وعاء حي للزمان. في أرضها نبتت الشجرة التي صنعت حقبة ممتدة من حياة وتاريخ أميركا اللاتينية. سيمون بوليار الثائر الملقب بالمحرر. ولد في كاراكاس عاصمة فنزويلا في القرن الثامن عشر، من عائلة غنيّة ذات أصول إسبانية. أوقف حياته على تحرير أميركا اللاتينية من الاستعمار الإسباني، خاض أكثر من مائة معركة لتحرير دول هي: فنزويلا، البيرو، الإكوادور، كولومبيا، بوليفيا التي تحمل اسمه. رفع شعار توحيد دول القارة. بوليار الأسطورة التي نثرت بدورها في ملايين الرؤوس اللاتينية. تحولت إلى وعاء سياسي تصبُّ فيه الآيديولوجيا اليسارية أفكاراً وأحلاماً وشعارات. بوليار، من مواليد ما قبل عصر الآيديولوجيات. تحرير القارة ووحدتها هدفان قادا رأسه وسلاحه. أصبح اليوم هو آيديولوجيا الأسطورة. قال بوليار: المجد أن تكون عظيماً ومفيداً. يقصد المجد هو التحرير والفائدة هي توحيد القارة.
أميركا بشمالها وجنوبها هي اختراع بقدر ما هي اكتشاف. القارة الأسطورة، اقتحمها العالم القديم كي تمسح بيدها على عقله وكيانه القديم، فيصير لوحة الغموض المكشوف.
إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، فقست بيضة الزمان. إيطاليا انقادت مغمضة العينين لسلطة الفاتيكان دهراً تحت راية الكاثوليكية، نهضت بثورة العلم ومغامرات الإبداع. فلورنسا نطفة التفكير العقلي، وجنوة سيدة البحر المتوسط، وهبت للمحيط بعد البحر ابنها كريستوفر كولمبس. في زمن الانفتاح والتطلع إلى المعرفة والاكتشاف الأوروبي.
المعرفة والاكتشاف من مغامرات العقل البشري التي تقهر سطوة الطبيعة المرعبة بقوة العلم. نبتت في رأس كولمبس بذرة المغامرة الكبرى. اتجه إلى ملك البرتغال وعرض عليه فكرة اقتحام الدنيا المائية الغربية التي تحد البرتغال، بين الموافقة والتردد كان اللاقرار. سنة 1486 قابل ملك إسبانيا، كان القرار من رحم الملكة إيزابيلا التي تحمست للمشروع، وقررت تمويله من مدخراتها ومجوهراتها. أواخر القرن الخامس عشر بالنسبة لإسبانيا كان رحم الولادة الكاملة، تمكن فيه فرديناند وإيزابيلا من القضاء على نتوءات الوجود العربي الإسلامي في الأندلس. انطلق كولمبس في رحلة مغامرة حالمة نحو المأمول المجهول.
حمل في رأسه وفوق سفنه دنيا إلى دنيا، وسيعود بكتلة من الأرض والناس والزمان.
القوم الذين اكتشفهم كولمبس مع الأرض وأطلق عليهم اسم الهنود الحمر، وفتح عليهم باب الإبادة ما زال منهم من يعيش فوق أرض القارة، لكن أكثرهم صاروا أسطورة صامتة تتنفس في رؤوس الملايين. شعارات تلمع لتخفت لكنها تعاود البريق عبر تعرجات ووهاد الزمان.
سيمون بوليار، هو قرين الأسطورة الأولى كريستوفر كولمبس التي تعيش في وعاء أميركا اللاتينية، القارة الاكتشاف والاختراع. الأفراد (الزعماء)، هم الأسماء التي تلقي بنفسها في الوعاء وعليها قبعات - الشعار - تشي جيفارا، تحولت قبعته إلى عنوان لمجلد كبير فيه أحلام سيمون بوليار وسلاحه ومجده وفوائده، التحرير والوحدة. انطلق من الأرجنتين كنز أميركا اللاتينية، التقى توأمه في الحلم والثورة فيديل كاسترو. حققا معاً ما كتب في الصفحة الأولى من مجلد الحلم، إسقاط باتيستا حاكم كوبا. توّج كاسترو رئيساً على كوبا، أما جيفارا فصار (النجم) الذي تحمل قبعته نجمة وهج ثورة الدنيا. ذهب إلى أفريقيا حاملاً مشعل الأسطورة، لكنه غادرها عائداً إلى قارته ليُقتل في بوليفيا، التي تحمل اسم الأسطورة سيمون بوليار.
تحقق الحلم الأميركي اللاتيني في الحرية. قاد الإسبان (اللاتين) المعركة ضد سلطة الأجداد والآباء الذين سيطروا على القارة. اللغة التي فرضها الاستعمار كانت القوة التي صنعت الرابط الروحي والثقافي والسياسي، وساهمت في تشكيل العقل ورسم خرائط الطموح العابر للحدود. ولدت دول عدَّة، متنوعة في القدرات المادية وأنماط الإنتاج والحياة، وتسربت أفكار متباينة إلى القارة. عانت كثير من الدول الجديدة من غياب المؤسسات السياسية. سيطر الفكر الفردي على الهويات السياسية والاقتصادية للدول، مما ساهم في تكريس الهيمنة الديكتاتورية. تقلبت بعض الكيانات بين الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية، دول قليلة حققت الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي.
فنزويلا بلد يختزل في مسيرته السياسية عبر التاريخ الحديث - دراما - أميركا اللاتينية. تمتد فوق أرض تحوي أكبر احتياطي نفط في العالم، بها من الثروات المائية الهائلة ما يجعلها سلة خبز لا تفرغ. هي اليوم تعيش كارثة مالية وغذائية، تموج بعنف سياسي دام. ربع سكانها يعيشون تحت خط الفقر، تجاوز التضخم خمسة وثمانين في المائة. كل ما فيها يُهرّب إلى البلدان المجاورة، ويهرع السكان إلى تلك الدول للحصول على الغذاء. التقارير الدولية تقول بالأرقام إن البلاد تعاني مجاعة حقيقية. رفع الرئيس الراحل هوغو شافيز شعار الاشتراكية ووعد الشعب بالرفاهية، وقدم النفط بأسعار رمزية إلى عدد من الدول بينها كوبا.
هوغو شافيز، جسَّد المفارقات التي تتحرك على الأرض، وتعمل فوق كرسي السلطة. كان رجلاً عاطفياً خطيباً متواضعاً عفيفاً لم تمسسه يدُ الفساد المالي، في ذات الوقت كان الحالم المغامر. قاد محاولة انقلاب فاشل وهو ضابط بالجيش سنة 1992 وسجن وبعد خروجه خاض انتخابات رئاسية سنة 1999، وفاز فيها. استلهم أفكار سيمون بوليار وأضاف اسمه للاسم الرسمي للدولة. جرت محاولة انقلاب ضده، لكنه عاد للسلطة بعد ساعات بقوة المظاهرات الشعبية. لم ينجح في تكريس مأسسة الدولة، ما عمق الفوضى والمعاناة في البلاد.
عانت الكثير من دول القارة من الانقلابات العسكرية. الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، وكان العنف الرهيب هو أداة الحكم في هذه الدول. أُسقطت الانقلاباتُ بهبَّات شعبية كلفت الكثير. عانت دولة مثل كولومبيا من تمرد دام نصف قرن قادته حركة الفارك.
في دول أخرى تبنى قادتها الشعارات اليسارية، لكنها من خلال (المشروع) التنموي الاقتصادي العملي حققت تقدما شاملا مثل الإكوادور وبولييا. الدولة التي قدمت نموذجاً فريداً في القارة كانت كوستاريكا، فهي مسجلة من أقدم الدول في الديمقراطية، لا تمتلك جيشاً، وتعد من أكثر الدول رفاهية في العالم ومحافظة على البيئة. كانت فنزويلا منذ سنوات قليلة حديث الحلم في القارة، اليوم صارت الأمثولة التي مسحت الشعار ليتقدم المشروع.