تهدف الولايات المتحدة في الوقت الراهن إلى الحد من النفوذ الإيراني في المشرق العربي وبلاد الشام. ولا تزال التقارير الإعلامية الأميركية تقول إن واشنطن تأمل في أن تتمكن روسيا من إجبار إيران على إخلاء قواتها من سوريا. وقال أحد الصحافيين الأميركيين المطلعين إن هذا جزء مهم من الاستراتيجية التي عرضها الجانب الأميركي على الوفد العسكري - الاستخباري الإسرائيلي الذي زار واشنطن في 17 أغسطس (آب) الماضي. وانطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على رأس وفد عسكري - استخباري في 23 أغسطس أيضا للاجتماع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوشي لإقناع القيادة الروسية باستخدام نفوذها لدى طهران من أجل إخراج القوات الإيرانية من سوريا في نهاية المطاف. بل بلغ الحد برئيس الوزراء الإسرائيلي إلى التهديد بقصف قصر الرئاسة السوري إذا واصلت القوات الإيرانية البقاء داخل سوريا.
وكانت إجابة موسكو مباشرة. وفي 30 أغسطس، صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، المعروف عنه في الأوساط الدبلوماسية تحليه بلغة خشنة، إلى الصحافيين، بأنه يجب على الجانب الإسرائيلي عدم التعرض بالهجوم للقوات الإيرانية العاملة في سوريا. كما أنه قال إن التعاون بين إيران وسوريا الذي لا يشكل انتهاكاً للقانون الدولي يجب ألا يسبب مشكلة لأي طرف أو أن يكون موضع تساؤل من جانب أحد.
ولمزيد من الوضوح في السياسة الروسية الراهنة، صرح السفير الروسي في تل أبيب للتلفزيون الإسرائيلي بتاريخ 23 أغسطس، بأن روسيا ترغب في رحيل كافة القوات الأجنبية عن التراب السوري، بما في ذلك القوات الإيرانية. لكن أولويات المرحلة الحالية تتعلق بـ«إسناد الحكومة السورية ومكافحة الإرهاب». كما قال السفير الروسي لدى الأمم المتحدة بتاريخ 23 أغسطس إن إيران تلعب «دوراً بناء» في الداخل السوري.
و«الدور الإيراني البناء»، إضافة إلى مساعدة الرئيس بشار الأسد، يساعد الجانب الروسي كذلك على الحد من النفوذ الأميركي في سوريا وفي منطقة الشرق الأوسط. وكان الحصار الأميركي بالقواعد العسكرية والتحالفات السياسية عبر السبعين عاماً الماضية من أبرز مصادر الاستياء الروسي حيال السياسات الأميركية الخارجية. لذلك، فإن مساعدة واشنطن في الحد من النفوذ الإيراني لا تنسجم أبداً مع الأهداف الروسية الحقيقية التي تركز على الحد من النفوذ الأميركي في نفس المنطقة.
تملك روسيا في الوقت الراهن قاعدة جوية جديدة في سوريا وتعمل في الوقت نفسه على توسيع قاعدتها البحرية في طرطوس. كما أن موسكو أبرمت اتفاقات طويلة الأمد مع دمشق تتعلق بالحفاظ على بقاء تلك القواعد. وتحاضر موسكو المجتمع الدولي بلهجة سلطوية آمرة فيما يتعلق بالأوضاع في كل من سوريا وليبيا. وربما تحاول الاضطلاع بدور فاعل في جهود الوساطة لدى دول الخليج. وليس خفياً على أحد أن الميليشيات المدعومة من إيران، التي تقاتل لصالح الرئيس بشار الأسد، قد ساعدت روسيا على تحقيق الكثير من التقدم الاستراتيجي في المنطقة.
وستخاطر روسيا بمصالحها في المنطقة في حال أرادت مواجهة إيران في سوريا. هناك حالة من التنافس والتعاون القائم بين روسيا وإيران في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى. وفي حال أغضبت روسيا إيران في سوريا، فإن إيران قد تهدد المصالح الروسية في القوقاز وآسيا الوسطى. لقد بدأت روسيا في الاستفادة تجاريا من إيران في الآونة الأخيرة، وهناك اتفاقات مبرمة لإنشاء محطات نووية روسية في مدينة بوشهر الإيرانية مع تطوير حقل إيراني للغاز الطبيعي، إضافة إلى مبيعات الأسلحة مثل الصواريخ والمروحيات الحربية ومعدات لمشاريع البنية التحتية الإيرانية مثل السكك الحديدية، بحيث زادت قيمة التجارة بين روسيا وإيران حتى بلغت ملياري دولار في عام 2016 الماضي.
وليس من شأن روسيا، وفقاً لما تقدم، أن تخاطر بمواجهة إيران لمجرد أن واشنطن وتل أبيب تقدمتا بطلب ذلك من دون عرض أي تعويضات مغرية. وصرح الوزير لافروف في 30 أغسطس بأنه ليست هناك دولة في المنطقة لديها نية لمهاجمة إسرائيل الآن، وبالنسبة إلى روسيا، هناك مساحة مفتوحة لاستيعاب الدور الإيراني في سوريا. وأرسل الجانب الروسي مفرزة من الشرطة العسكرية إلى جنوب غربي سوريا لضمان احترام وقف إطلاق النار هناك وإبقاء «المقاتلين غير السوريين» بعيداً عن الحدود الإسرائيلية والأردنية. وفي يوليو (تموز) الماضي، وافق الروس والأميركيون والأردنيون من حيث المبدأ على بقاء «القوات غير السورية» على مسافة 20 ميلاً بعيداً عن الحدود الأردنية. وفي أغسطس، عدّل الجانب الروسي من موقفه واقترح أن تكون مسافة الفصل 10 أميال فقط، وأن تصل إلى 5 أميال فقط في بعض المواضع الأخرى.
وفي الوقت الراهن، يأمل الإسرائيليون والأميركيون والأردنيون أن تحترم روسيا كلمتها في شأن إقناع إيران باحترام مسافة الفصل المصغرة وتجنب المناطق الخاضعة لقوات المعارضة السورية. وتطرح المناطق المصغرة التابعة للمعارضة السورية، رغم كل شيء، تساؤلات خطرة على دمشق: كيف يمكن للنظام «البعثي» أن يتحلى بالشرعية المطلقة إذا تمكنت بعض المجالس المحلية المنتخبة بحرية من إدارة شؤونها الداخلية في تجاهل تام لسلطة دمشق؟
يعرف بشار الأسد والجنرال الإيراني قاسم سليماني قيمة الانتظار والصبر لجني المكاسب التكتيكية على الأرض. وصرح الجانب الروسي قائلاً إن شرطته العسكرية المنتشرة في الجنوب السوري ليست وحدات قتالية، فماذا بإمكان هذه الوحدات أن تفعل إذا تجاوزتها قوات النظام السوري وميليشيات إيران لمهاجمة البلدات والقرى المعارضة في منطقة «خفض التصعيد» في جنوب غربي البلاد؟ وما لم يهاجم سلاح الجو الروسي قوات النظام وميليشيات إيران المتقدمة على الأرض فلن يمكن وقف هذه القوات أبداً. ومن الجدير بالملاحظة أن روسيا لم تتخذ هذه الخطوة من قبل في انتهاكات منطقة «خفض التصعيد» في حلب عام 2016 ولا في الغوطة الشرقية وشمال حمص في عام 2017 الحالي. ومن المهم بصورة خاصة أن نتذكر أن روسيا تدافع دائماً عن المبدأ القائل بأن «الحكومات ذات السيادة الشرعية من حقها اتخاذ ما يلزم من إجراءات عسكرية داخل حدودها الوطنية».
قد يحاول بشار الأسد وقاسم سليماني تخريب الخطة الروسية الرامية إلى إقامة لامركزية وإبرام اتفاق سريع للسلام في سوريا. لكن عندما يجد الرئيس فلاديمير بوتين نفسه في مواجهة الأضرار الإيرانية المباشرة بخطته في سوريا، لن يفكر في القنيطرة ودرعا وعين ترما أو المجالس المحلية أو القانون الدولي، بل سيفكر كذلك في المصالح التجارية والمصانع والعمالة الروسية، فضلاً عن أذربيجان وطاجيكستان وقيرغيزستان وكذلك حالة التنافس المستمرة مع الولايات المتحدة.
وقتذاك، سيُعمل بوتين عقله في التحليل وليس قلبه في التمني والأمل.
* السفير الأميركي الأسبق لدى سوريا - خاص بـ«الشرق الأوسط»