في مدينة درنة الليبية الخلابة، وفقا لما رواه شاهد عيان، يصادفك شباب ملثمون يرتدون سراويل مخرفجة، ويحملون بنادق رشاشة، ويحولون سحر المكان إلى ساحة للوغى. لا يوحي هذا المنظر بأنك في مدينة درنة، إنما يقول لك عقلك إنك تحلم.. ترجع النظر مرة أخرى فترى أعلام «القاعدة» ترفرف خفاقة فوق رؤوس هؤلاء الشباب.. تظن أنك في أفغانستان، أو في بلاد الشام، أو في الموصل وما جاورها. تضرب رأسك براحتيك لتفيق من الحلم، لكنك تعلم بعد ضربات متتالية أخرى أن هذا ليس حلما، بل واقع ماثل أمامك. وأنك في جبل ليبيا الأخضر.
تسأل: لماذا ترفع أعلام «القاعدة» هنا؟ لا أحد يجيب.
يأتيك خبر تفجير مبنى فرع وزارة المالية في درنة، تقول وما الداعي لذلك؟ يقال لك بسبب صرف الوزارة مرتبات أفراد الشرطة في المدينة.
تفر من المدينة بعد سماعك خبر انفجار إلى«راس الهلال» شرقي درنة لتتأمل سحر المكان وفتنته، لكنك ترى وسط هذا الجمال الفتان، أناسا مدججين بالسلاح، يخرجون ويختفون كالأشباح ويظهرون متى يشاءون ويخيفون من يريدون إخافته.
تلوذ بمدينة سوسة، المدينة الساحرة الأخرى في هذا الجبل، تتداعى إلى ذهنك أبيات الشاعر المصري الراحل علي محمد أحمد:
أرأيتَ سوسةَ والأصيـلُ يلفها
في حلّة نسجتْ من الأضواء؟
لم يكن هذا المنظر حاضرا.. بل ثمة حزن يلف المكان ببحره وبره وجوّه.
هكذا على طول الجبل وعرضه، تصادفك ميليشيات أثقلها السلاح.. في القبة الداخلة في خاصرة البحر المتوسط، وجنوبا إلى قورينا أو شحات أو سيرين، سمها ما شئت فلا يهمنّك الاسم بعد الآن.
في البيضاء تتعالى أصوات مطالبة بفيدرالية تجد لها صدى في جبل نفوسة. في المرج احتجاجات ومظاهرات على ما يجري في المؤتمر الوطني في طرابلس.
تلجأ للعاصمة الثانية بنغازي فيتزامن وصولك مع الاغتيالات، قيل إن مدير المخابرات العامة للمنطقة الشرقية قتل رميا بالرصاص على رؤوس الأشهاد.
في اليوم التالي ترى الناس خارجين قي مظاهرة مطالبة بحل الميليشيات، وبكل سهولة تُحوّل أسلحة هذه الميليشيات باتجاه الناس فيقتل المسلحون أربعة ويجرحون عشرين آخرين، قرب معسكر «كتيبة شهداء 17 فبراير»، وفي مفاجأة عجيبة يعلن رئيس حكومة ليبيا المحاصرة بالميليشيات، حدادا مدته ثلاثة أيام على أربعة من رجال الشرطة القضائية التابعة لوزارة العدل، قتلوا خلال المواجهات الدامية.
وأمرت الحكومة بتنكيس الأعلام فوق «جميع الدوائر الحكومية ومباني الدولة، وإلغاء جميع المظاهر الاحتفالية الرسمية أيام الحداد»، أي مبان حكومية؟ هل في ليبيا مبان حكومية، أم مبان ميليشاوية؟ ولكن مهلا أيتها الحكومة، ألم يقتل مطلع هذا الشهر عشرة جنود وشرطيين ويصب 24 آخرون في اشتباكات بين القوات الخاصة في الجيش ومقاتلين إسلاميين من «جماعة أنصار الشريعة» بمساندة عدد من عناصر «كتيبة شهداء 17 فبراير» في المكان عينه؟ فلتعلنْ الحكومة حدادا دائما إذن حتى إعادة الأمن المفقود.
في هذه المدينة الكبيرة تنتشر الميليشيات والإرهابيون واللصوص، في كل ركن فيها، مثلما ينتشر هؤلاء في أغلب المدن الليبية.
يقلق أحد الضباط الليبيين الكبار، فيجمع ما لديه من خبرة ويهاجم بعضها، وينشب عراك بالسلاح الفتاك، فكيف تكون كتيبة «17 فبراير» تابعة للإسلاميين فقط؟ من الذي يريد الاستيلاء على الثورة إذن وسرقتها؟ إنهم الإسلاميون، وكذلك يفعلون في أغلب المدن الليبية بمساندة شرسة من دولتين مستميتتين على تحويل ليبيا إلى بؤرة إخوانية، في تحدٍ صريح لرغبة جلّ الليبيين!
ويجد هذا الهجوم صدى له في العاصمة الأولى طرابلس فيتعرض مقر المؤتمر الوطني لهجوم بصواريخ أرض جو مضادة للطائرات..!
ويخرج رئيس الحكومة فيقول بعد أن دك مكانه: إن الأوضاع تحت السيطرة.
لكن متظاهرين نظموا مظاهرة في ميدان الجزائر في طرابلس دعما لحفتر وتنديدا بالميليشيات.
تزحف غربا نحو رأس لانوف والسدرة تجد وضعا أكثر قتامة.. مسلحين ليبيين يسيطرون على هذين المرفأين النفطيين الحيويين في شرق ليبيا.
تحل بإجدابيا فيخبرونك بأن رجلا فقد رجليه في انفجار لغم في بوابة المدينة الشرقية. وتسمع عن معارك دارت رحاها بين جنود تابعين لما يسمى رئاسة الأركان العامة الموجودين في معسكر «الحنية»، وكتيبة «إقليم برقة» مع مسلحين يسيطرون على آبار النفط.
تمر بسرت فتجد دمارا في كل مكان.. أما تاورغاء فأصبحت أثرا بعد عين.
في مصراته تجد دولة فعلية داخل الدولة الليبية المهشمة.
في طرابلس المدينة المدججة بالسلاح تجد عربدة ميليشياوية من مختلف الأطياف تزايدت عمليات خطف الدبلوماسيين، والعرب تحديدا. أما أعضاء المؤتمر الوطني فلا صوت لهم إلا من كانت له ميليشيا تتبعه، وإن لم يسمع أحد صوته، فإنّ الميليشيا تتدخل لإسماع صوته بالقوة حتى لو كان عييًّا.
تحول رجال الدين، وبخاصة في هذه المدينة، إلى منظرين سياسيين يصدرون الفتاوى، ويخوضون في السياسة أيضا. وهؤلاء يجدون من يصغي إليهم، وبالتالي لهم أيضا ميليشياتهم الخاصة.
طرابلس أصبحت مربعات أمنية.. أغلب القبائل لها مربعات تتسيّد عليها.
في الجنوب كرّ وفرّ بين القبائل وسطو على المحلات والمزارع، ونزاعات بين القبائل واتهامات متبادلة. وصدامات عرقية.
في سبها، ملتقى قبائل الوسط والجنوب والساحل، أصبح التناطح أمرا عاديا. فالتصادم القبلي بلغ ذروته في عاصمة الجنوب هذه.
وفي هذا البحر من الظلمات العاصف بالميليشيات والإرهابيين والفوضويين واللصوص، غدا أمر التدخل ملحّا أكثر من أي وقت مضى، قبل أن تختطف هاتان الدولتان المشار إليهما ليبيا إلى غير رجعة.
ينبغي أن يستيقظ ضباط الجيش الليبي المتقاعدون منهم والعاملون، ويلتفوا حول بؤرة الضوء هذه التي تشكلت في شرق ليبيا، والتي تنبئ بأن هناك بصيصا من الأمل المنظور يحتاج إلى دعم ضباط ليبيا ومساندتهم في كل المدن الليبية لإنقاذ ليبيا وانتشالها من براثن المتربصين بها.
إن الجيش هو المنقذ الوحيد من هذا الوضع المأساوي الذي يتحكم فيه القبليون والمتطرفون والإرهابيون.
ولا أحد بقادر على الحسم إلا جيش لا تأبه قيادته بالقبيلة، بل تضع الأمن الوطني فوق كل اعتبار.
إن التحركات التي يقوم بها اللواء حفتر تتطلب دعم جميع الضباط الليبيين لإنقاذ بلادهم من الضياع. كما تتطلب دعم كل الليبيين ومساندتهم لإعادة الاستقرار وإرساء حكومة تمثل كل الليبيين من شرق البلاد إلى غربها.
إن المرء لا بد له أن يثق بشخص مثل حفتر، وهو الذي عاش في أميركا أكثر من عقدين، وشاهد عن كثب الأداء والتداول الديمقراطي للسلطة فيها. وإن المرء لعلى ثقة أيضا بعد أن تعاد الأمور إلى نصابها أن يفتح هؤلاء الضباط الطريق سانحا للتداول الديمقراطي.
أما الحل الآخر فهو على الطاولة أيضا.. إنه إطلالة ثانية للأطلسي، ونترك الأمر من دون تفاصيل.