د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

ترمب... استراتيجية جديدة

الخلاصة التي وصلنا إليها من دراسة الحملة الانتخابية الرئاسية لدونالد ترمب هي أنه سوف يكون الرئيس الذي ينظر للدنيا نظرة ضيقة، فليس مهماً أن تقودها الولايات المتحدة طالما أن القيادة سوف تكلفها الكثير، ومن ثم فإن النظرة العامة تميزت بالعزلة، وفعل ما يرضي البيض القوميين أصحاب النظرة الاقتصادية الضيقة، والبعد عما يورط الولايات المتحدة في صراعات لا طائل من ورائها. ولأول مرة في التاريخ الأميركي المعاصر وجدنا رئيساً قاسياً على حلف الأطلنطي وباقي حلفاء أميركا الغربيين أو من غيرهم، وعلى معاهداتها واتفاقاتها التجارية في الإقليم الأميركي مع «النافتا» أو مع العالم في منظمة التجارة العالمية أو اتفاقية التجارة عبر المحيط الباسفيكي. والحقيقة أن هبوط ترمب على البيت الأبيض أظهر أن الرجل كان جادا في دعاويه التي لم تكن ربما تحتاط في الكلمة. كان «ترمب هو ترمب» الذي يعشقه الموالون له بين الجماهير، والمتحمسون له من الساسة، وحتى المعادون له داخل حزبه وخارجه؛ وبالتأكيد فإنه لم يحصل على حب من الإعلام.
الآن وبعد تسعة أشهر في السلطة والبيت الأبيض فإن ترمب لم يعد كما كان، وقبل أسبوع وفي خطابه الخاص بالاستراتيجية التي سوف يتبعها في أفغانستان فإنه يفاجئنا بأن «غرائزه» كانت في اتجاه مختلف عما اتخذه من قرارات واتبع فيها آراء مستشاريه. لقد انتصرت هذه المرة النظرية التي قالت إن «المؤسسات» هي التي سوف تفوز في النهاية على النظرية الأخرى التي تقول «دع ترمب يكون ترمب» أي يتصرف تبعاً لما يدفعه إليه تفكيره وغرائزه تجاه الموضوعات المختلفة، على أساس أن ذلك سوف يضمن أن تصبح الولايات المتحدة «عظيمة» مرة أخرى. ولم يكن الطريق إلى ذلك سهلاً، بل إنه بعد يوم واحد من قراره المخالف لغرائزه، فإنه أقام مهرجاناً انتخابياً في ولاية أريزونا أعاد فيها على مسامع عشاقه ما يحلو لهم سماعه فيما يتعلق بالمهاجرين، وإقامة الجدار بين الولايات المتحدة والمكسيك، ومشروعات القوانين التي سوف تغير من وجه أميركا في الضرائب والبنية الأساسية. ولكن ذلك كله كان مفارقاً للواقع، فعدم حضور أعضاء مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا لمهرجانه السياسي كان تعبيراً عن الانقسام الحادث داخل الحزب الجمهوري، والذي كلفه غالياً في جميع القوانين التي قدمها إلى الكونغرس وفي المقدمة منها قانون الرعاية الصحية. ولكن ما كلفه أكثر فقد كان «حالة البيت الأبيض» التي جعلته خلال فترة قصيرة للغاية من بداية فترته الرئاسية الأولى يخرج عدداً غير قليل من معاونيه ابتداء بمستشاره للأمن القومي، والمتحدث الإعلامي باسمه، والمسؤول عن الاتصالات، وكبير موظفي البيت الأبيض؛ وأخيراً وربما أهمهم جميعاً قرار الاستغناء عن «ستيف بانون» المستشار الاستراتيجي للرئيس وحامل أسراره الآيديولوجية.
قرار أفغانستان ربما كان أهم القرارات التي عبرت عن عودة ما لترمب إلى حظيرة المؤسسة، فغريزة الرجل هي أن أفغانستان ورطة لا سبيل للخلاص منها؛ وسواء كان السبب فشل الإدارات السابقة أو أن مزيداً من التدخل العسكري لن يغير من الأمر شيئاً، فإن الرئيس لم يجد في أفغانستان مصلحة تستحق التضحية. ومع ذلك فإن الرئيس الأميركي قرر استمرار التدخل، وأكثر من ذلك ضرورة الفوز أو النصر في المعركة لأن أميركا لا يمكنها من حيث المصداقية والقيادة للعالم أن تترك الساحة الأفغانية مفتوحة للإرهابيين أو للقوى المتطرفة من أنواع مختلفة. وجهة النظر هذه منتشرة وذائعة في المؤسسة العسكرية والدبلوماسية والمخابراتية الأميركية، وهي التي ضغطت بشدة، بعد تفريغ البيت الأبيض من المتطرفين البيض من جماعة أميركا أولاً، من أجل اتباع هذه الاستراتيجية. ولكن السؤال يبقى إلى أي مدى سوف يذهب ترمب في البحث عن النصر على الساحة الأفغانية؟ ولكن قبل الإجابة عن السؤال فإن ترمب لم يجنح إلى مزيد من التدخل العسكري فيما يتعلق بأفغانستان فقط، ولكنه أيضاً كان مستعداً لمزيد من التدخل العسكري ضد «داعش» في العراق وسوريا وبناء على رغبة «المؤسسة» أيضاً.
هناك حقيقتان في اتجاه الإجابة عن السؤال لا بد من وضعهما في الحسبان: الأول أن الحرب في أفغانستان وكذلك ضد الإرهاب في عمومه هما من أطول الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها؛ ستة عشر عاماً من الحرب والتصعيد والانكماش لم تحقق نصراً حتى الآن. الطبيعة الخاصة للحرب جعلت تعريفات النصر والهزيمة فيها مستحيلة التطبيق. والثاني أنه لا يمكن بالتالي تحديد حجم التورط والقوات العسكرية اللازمة للنصر في هذه المعركة. باراك أوباما من قبل ترمب نقل ساحة المعركة من العراق إلى أفغانستان، ولكنه ما لبث أن بدأ الانسحاب والتركيز على تدريب وتجهيز القوات الحكومية الأفغانية. النتيجة، سواء في زمن أوباما، أو في زمن ترمب، أن «طالبان» باتت تسيطر على أكثر من ثلث الأراضي الأفغانية، وهناك خوف من انهيار القوات الأفغانية الحكومية. ترمب على أية حال ليس من الرؤساء الذين يذيعون التفاصيل، ومن ثم غير معروف العدد من القوات الذي سوف يرسله، ولكن ما ذاع من إرسال 4 آلاف جندي إضافي لا يعني تغييراً جوهرياً في موازين القوى على الساحة الأفغانية، وأن الدعم سوف يكون من خلال المزيد من التدريب والتجهيز للقوات الأفغانية مضافاً إليها الضغط على أفغانستان كي تقلل من دعمها لـ«طالبان»؛ وربما إتاحة موارد أكبر للحكومة الأفغانية بعد وقف الخطط الأميركية لبناء «الأمة» الأفغانية. في هذا يوجد بعض من الجديد في السياسة الخارجية الأميركية التي كانت تحت قيادة المحافظين الجدد في عهد جورج بوش الابن والتقدميين الجدد في عهد باراك أوباما تعطيان اهتماماً بالغاً لعمليات بناء الأمة على أسس من الصورة الأميركية، بدلاً من اتباع سياسات تضع «المصالح الأمنية» للولايات المتحدة «فوق أية اعتبارات أخرى» على حد قول دونالد ترمب. هذه لمسة «ترمبية» تعطي عودته للمؤسسة تحفظاً على الطريقة السابقة لإدارة الحرب، وتجعل من شعاره عن «الواقعية المبدئية» حقيقة واقعة في إدارة الحرب على المسرح الأفغاني وربما في مسارح عسكرية أخرى.
عودة ترمب إلى «المؤسسة» مرة أخرى على خلاف مواقفه الانتخابية لا تعني بالضرورة أن ترمب الذي عرفناه قد فقد الكثير من قوة الدفع التي تمتع بها حتى حصل على مقعد الرئاسة؛ فحتى الآن فإن ما قام به يظل تعديلات جزئية في استراتيجية قائمة من عهد سابقيه، وستكون استراتيجيته مختلفة إذا ما قرر فجأة التصعيد حتى النهاية برفع عدد القوات والعتاد إلى الدرجة التي تكفل نصراً واضحاً وحازماً؛ أو على العكس يقرر أن أفغانستان هي قضية ضائعة ومن ثم وجب الانسحاب الكلي من المعركة. هذه على أية حال طبيعة الحروب والمعارك، فهي كالمقامرة التي تدفع دوماً لمزيد من التورط، أو على العكس لا يكون فيها إنقاذ إلا بالانسحاب الكلي.