خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الزجاج في محاسنه ومساوئه

أثار الزجاج كثيراً من المقارنات والمشابهات المجازية في سهولة تهشمه واستحالة إصلاحه. وأيضاً في شفافيته وتألقه. يعرف بين العامة بالقزاز، والجام؛ وهي كلمة فارسية الأصل. وقد سحر القوم بشفافيته وتألقه، وأيضاً باستحالة إصلاحه على ما كان عليه. فأوحى بكثير من الأمثال والأشعار في هذا الصدد. ومن ذلك قولنا: «صب جام غضبه». وقال أبو العلاء المعري:

ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
فحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأنّنا
زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك

الزجاج يمكن أن يصهر ويعاد له سبك بهيئة جديدة، ولكن لا يعاد لحمه أو إصلاحه وإعادته إلى ما كان عليه. وهكذا قال أصحاب الحكمة: «جرح القلب مثل الجام ما ينلحم». وقد ورد للجام قول ظريف ذو جناس بارع كما صاغه الشاعر في هذه الصيغة:

كلكم قد أخذ الجـــا.... م ولا جام لنا
ما الذي ضر مدير الجـــا.... م لو جاملنا!

والمقصود بالجام هنا هو الكأس، ومدير الجام هو الساقي والمضيف.
أما أصل المثل «جرح القلب مثل الجام ما ينلحم» فله حكاية بليغة. يروى أن رجلاً دعا صديقاً له إلى عشاء في بيته، وكان الصديق كريم الخلق عظيم الحساسية، ولكنه كان بشع المظهر قبيح الصورة. ومن هنا جاء إفراطه في الحساسية كما نتوقع.
استجاب الصديق للدعوة وقصد بيت الداعي. فاستقبلوه وقادوه إلى غرفة المضيف. وكان أن لمحته زوجة الداعي فكرهت منظره. وفيما هو جالس ينتظر صاحبه سمعها تقول لزوجها: «من هذا الرجل البشع؟ ألم تجد في الدنيا كلها شخصاً أفضل منه وأليق؟»، وراحت تسخر وتندد بهيئته، وهو يسمع كلامها من وراء الستائر.
وعندما حضر المضيف، وقف الرجل ليستأذن بالانصراف والاعتذار عن الدعوة. فاستثقل المضيف ذلك منه وتعجب، فاستوقفه ثم جرى الكلام بينهما وتطور إلى شجار ودفع وجر، فسقطا على المائدة، وتكسر بذلك كل ما كان عليها من كؤوس وأطباق زجاجية، ولكن الضيف تمكن من مبارحة المكان.
مرت أشهر على الحادث وساقت الأقدار بهما بعضا لبعض. فعاد صاحب البيت ليعتذر عما قالته زوجته من كلام جارح، فكرر الدعوة لصديقه فسأله هذا، والكؤوس والأطباق. هل استطعت إصلاحها؟ قال كلا. فقال له وكذا جرح القلب يا صاحبي مثل الجام لا ينصلح!
وسارت كلماته مثلا بين الناس.