خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

كاد المعلم أن يكون رسولا

رغم كل ما يقدمه المعلمون من خدمة أساسية للمجتمع، فإننا قد اعتدنا على سماع أقاصيص وكلمات ساخرة عنهم. لا أدري ما السر. فكلنا تلقينا أول دروسنا في الحياة على أيدي المعلمين وندين لهم بكثير من أخلاقنا ومعارفنا ومعلوماتنا. ومع ذلك، فقلما أنصفهم أحدنا؛ لا بالأجور ولا بالتقدير والاحترام. حتى هذا العالم الجليل؛ الجاحظ، أفرد جزءاً كبيراً من مؤلفاته للسخرية من المعلمين. ومع ذلك، فلم يَكِل له المعلمون الصاع صاعين بحذفه من مناهجهم المدرسية للأدب العربي. لو كنت مكانهم لحذفته كلياً من دروسهم.
من أعجب العجب أننا نرميهم بصغر العقل، ومع ذلك نأتمنهم على تربية أولادنا. لا أدري من منا صغير العقل، ولكن الظرفاء أصروا على التنكيت على صغر عقل المعلمين؛ فقيل: من أين يأتيهم العقل إذا كانوا يقضون نهارهم مع الأطفال في المدرسة ولياليهم في البيت مع المرأة؟
تعددت الأمثال والأقوال. ومنها قول: «خجلاً من جنابكم». وللمثل تطبيقات وحكايات، وهو ما يذكرنا بالقول الآخر: «العذر أكبر من الذنب». وحكايته واحدة من الحكايات الكثيرة المرتبطة بالمعلمين. قالوا: إن مفتشاً ذهب للتفتيش بإحدى المدارس عن التقدم في تدريس اللغة الإنجليزية. دخل أحد الصفوف، فراح المعلم يستعرض مدى فهم التلاميذ لهذه اللغة. نادى على التلاميذ بالإنجليزية: قفوا، فوقفوا. ارفع اليد اليسرى، ففعلوا. ارفعوا الرجل اليمنى، فرفعوها. ارفعوا أرجلكم اليسرى، فسقطوا جميعاً على الأرض. التفت المعلم للمفتش وقال: إن التلاميذ سقطوا على الأرض «خجلاً من جنابكم». وسارت الكلمات مسرى الأمثال.
وتذكرني الحكاية بحكاية المعلم الآخر الذي جاءه أيضاً مفتش الوزارة. دخل غرفة الدرس وأراد أن يختبر الطلاب، فسأل أحدهم عن القلب ومكانه، فأجابه، وسأل آخر: هل للبعير قلب؟ قال: نعم. ثم سأل تلميذاً غيره: هل للفأر قلب؟ قال: نعم. ما إن خرج المفتش حتى انهال المعلم ضرباً على هذا التلميذ... كيف تحرجني أمام المفتش وتقول إن للفأر قلباً؟ ألا تعرف أن القلب أكبر من الفأر؟ حكايات المعلمين مع المفتشين من نوادر حكاياتنا اليومية.
طرائف المعلمين باب كبير من أبواب الأدب والسخرية، وأفرد له الجاحظ كتاباً خاصاً بعنوان «نوادر المعلمين». غير أن أمير الشعراء شاء أن يصحح هذا الانطباع عن المعلمين بقصيدة خلدته بمطلعها البليغ:
قم للمعلم وفِهِ التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
لقد حفظ أكثرنا هذا البيت، بيد أنه لم يساعد المعلمين لا في رواتبهم الزهيدة ولا في تقديرهم، وبقينا نصِف المعلم بأنه «سقيع العقل». قلما سمعت عن معلم لا يفكر في الهجرة من مهنته، والانتقال إلى أي مهنة أخرى؛ مع الأسف.