طفح الكيل... ثمة حنق كبير بين مهندسي الكومبيوتر الشبان في شركات التكنولوجيا الكبرى، بسبب التمييز الذي يتعرضون له لصالح زميلاتهم الفتيات. أكثر من ذلك، هذا الغيظ المكتوم الصوت، لا يمكنهم التعبير عنه، ولو تلميحاً، وإلا اتهموا بـ«الذكورية» و«الرجعية»، وقد يصل بهم الأمر إلى الطرد. قصة مهندس «غوغل» جيمس دامور الذي فصل من عمله بتهمة «التحيز الجنسي» مفاعيلها تتوالى. ما قرأناه حول الشاب الذي اتهم بأنه «خالف القوانين»، وشجع على «خلق مناخ عدائي» في أكبر شركات «وادي السيليكون»، ليس إلا رأس جبل الجليد الذي ترتطم به الصناعات التكنولوجية الأثقل والأكثر تأثيراً. كل تهمة دامور، أنه باح بما يفكر فيه آخرون، أي أن «جانباً من الاختلاف بين الرجال والنساء قد يعود لأسباب بيولوجية، وهو ما يمكن أن يفسر سبب عدم وجود تمثيل متساوٍ بين الرجال والنساء في قطاع التكنولوجيا والقيادة».
كلام من المحرمات، في ظل قوانين تلزم بتوظيف عادل يحقق التنوع ليس بين الجنسين فقط، بل على مستوى لون البشرة أيضاً. شركات التكنولوجيا متهمة بالتقاعس عن توظيف النساء والسود، رغم أنها تفعل ما لا يمكن أن يتصور لسد الثغرة.
الحملات الترويجية التي تتنامى، من أجل تشجيع النساء على الانخراط في مجال التقنيات بشكل خالص، تبوء بالفشل. تعاود «غوغل» الاتصال بالخريجات اللواتي لم يجتزن اختبارات التوظيف لديها، تحثهن على الاجتهاد، تنظم لهن دورات مجانية، تستضيفهن في فنادق فخمة لتطوير قدراتهن، تفسح المجالات لهن لإجراء اختبارات جديدة، ومع ذلك يبقى العدد قليلاً.
دفع جيمس دامور ثمناً عن آلاف المبرمجين الذين يشعرون بالغبن والغضب، وهم يشاهدون زميلات لهم يوظفن ويدللن، وإن كنّ أقل كفاءة. هؤلاء يمضغون تبرمهم من غياب المساواة حين يصبح الانحياز للجنس أولوية على الكفاءة. المنافسة حامية الوطيس، والفتيات اللواتي تمكنّ من الوصول إلى هذه الاختصاصات يعتد بهن، لكنهن وسط حرب المنافسة الضارية يتبين أنهن لسن الأكثر سرعة لبلوغ القمة.
محامي المهندس المطرود دامور، يعتقد أن لموكله حظاً في كسب قضيته أمام المحاكم؛ لأنه مع التنوع، وعبّر عن ذلك تكراراً، ويريد للمرأة «أن يكون حضورها مساوياً لزملائها الرجال في التكنولوجيا»، لكنه يعترض على الأسلوب الاستفزازي الذي يتبع لبلوغ الهدف، ولديه بدائل قد تكون ناجحة.
الشك كبير في أن يتمكن جيمس دامور من إثبات حسن نواياه مع الضغط الشديد الذي يمارسه اللوبي النسائي. فما أن تغلق «غوغل» باباً حتى يفتح آخر. صحيفة «الغارديان» التي تتابع الموضوع بشغف، استنطقت نساء تركن «غوغل»، ليتحدثن عن معاناتهن من الذكورية والتمييز في جو يطغي فيه الرجال والبيض والآسيويون. الشكاوى غير مقنعة، مثل أنهن لم يشجعن على الترقي، أو أنهن لا يردن العمل في مناخات يطغى عليها رجال، أو يعترضن على عدم وجود مسؤولات سيدات. كل هذا يبدو متهافتاً في شركات جلّ ما تريده هو زيادة إنتاجها، وتلميع صورتها أمام مستهلكيها.
يدفع زوكربيرغ ملايين الدولارات، لإثبات وقوفه إلى جانب الجنس اللطيف. قدّم صاحب «فيسبوك» العام الماضي تمويلاً وصل إلى 24 مليون دولار، لشركة «أنديلا» وحدها التي تتخذ من لاغوس مقراً لها لهذا الغرض. تبذل هذه المؤسسات كل غالٍ ونفيس لتدفع عن نفسها تهمة لا ناقة لها فيها ولا جمل. يقول أحد المهندسين الشبان في السرّ «كنا نتمنى لو يتنامى عدد زميلاتنا، لكن ماذا نفعل لهن إن كن لسن متحمسات للمهنة ويدفع بهن بالقوة». ويتحدث مهندسون آخرون عن مبالغات زميلاتهم باتهامهم بالتمييز عند أي كلمة توجه لهن، أو تصرف غير مقصود يفسر على إنه استخفاف بهن.
هذه الأجواء ليست من بنات خيال أحد، بل هي تتنامى بسبب الإصرار على المساواة في كل المجالات، بدل توزيع الأعمال تبعاً للأهواء والرغبات وطموح كل جنس ومهارته.
فريق المدافعين عن المساواة البيولوجية مثل جينا ديفيس المبعوثة الخاصة لـ«الاتحاد الدولي للاتصالات» تنطلق من قاعدة أنه «يمكن للإناث أن يفعلن ما يمكن لهن أن يشهدن فعله»، وبالتالي تلقي باللوم على البرامج التلفزيونية والأفلام ووسائل الإعلام التي تحشر المرأة بمهن محددة، ولا تترك للمتفرج، ومنهم الفتيات أن يرين أنفسهن بصور جديدة. النتيجة أن «النساء لا يحصلن إلا على 18 في المائة من جميع الشهادات الجامعية العليا في علوم الحوسبة في أميركا، ولا يتجاوز عدد النساء العاملات في مجال العلوم 30 في المائة في أوروبا».
على الجبهة الأخرى ثمة نساء أيضاً، بينهن الباحثة الفرنسية جاكلين شربانتيه، التي تقوم بدراسات منذ خمسين سنة حول الفروقات بين الجنسين، ونشرت قبل أيام دراسة مفصلة، رداً على فصل المهندس جيمس دامور، منبهة إلى أن قضية المساواة باتت تخضع لمبالغات خطرة قد يكون لها تأثير اجتماعي واقتصادي أيضاً. وتشرح كيف أن الهرمونات والتركيبة الفسيولوجية تجعل المخلوقات مختلفة من بدء تكوينها، وأن الظروف المحيطة قد تزيد من الفجوة أو تنقصها، وهذا هو حدود الهامش الذي يمكن العمل عليه.
المفارقة التي يصعب فهمها، أن إحصاءات «اليونيسكو» العام الماضي تظهر أن عدد الذكور الذين يذهبون إلى التخصصات العلمية يفوق كثيراً الإناث، وأن الفجوة تزداد بقوة في دول الشمال الغنية منذ عام 2000، بحيث بات الإناث لا يتجاوزن 28 في المائة، بينما الحال مختلف تماماً في دول الجنوب الفقيرة، حيث تميل الكفة بشكل ملحوظ لصالح الفتيات. وهنا ثمة سؤال جوهري حول ما إذا كان التمييز ضد المرأة هو السبيل الأفضل لتحفيزها، وهل أن سنّ القوانين لصالحها وتبني سياسات وآيديولوجيات متطرفة لإنصافها هو ما يدفعها إلى التراخي؟
دعوا المرأة تناضل، إنها الأجدر بانتزاع حقوقها.
6:21 دقيقة
TT
نساء «غوغل»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة