حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.
TT

هل ثمّة حياة بعد الدولة الأمّة ذات الحكم المركزي؟

استمع إلى المقالة

إذا استعرنا استهلال ماركس وأنغلز بيانَهما الشيوعيّ الشهير قلنا إنّ شبح إعادة النظر بالدول يحوّم فوق المنطقة العربيّة.

فالدول التي تشهد احتجاجاً على وحدتها القائمة تتكاثر، وكلّ واحدة تُدرج حركتها في سياق إقليميّ قد يختلف عن السياق الذي تندرج فيه الحركة الأخرى، كما تتفاوت وتائر السرعة وأشكال التعبير، وأحياناً الإيديولوجيّات، بينما تبقى المحطّة الأخيرة واحدة لا يعتريها التغيير.

فالسودان، الذي تفتك به حرب الجيش و«الدعم السريع»، بات ينطوي على احتمال تقسيميّ خصب، علماً بأنّ البلد المذكور سبق لجنوبه أن انفصل عن شماله بموجب الاستفتاء الذي أجري صيف 2011.

ومع هجوم «المجلس الانتقاليّ الجنوبيّ» على حضرموت والمهرة في اليمن، استعاد الكثيرون انقلاب الحوثيّين، أواخر 2014، وسيطرتهم على صنعاء وجزء كبير من شمال البلاد، بينما استعاد آخرون دولتي الشمال والجنوب اللتين اتّحدتا في 1990، ثمّ اندلعت بينهما حرب 1994، وصعد ما بات يُعرف بـ«المسألة الجنوبيّة».

ومؤخّراً جاء الاعتراف الإسرائيليّ بـ«جمهوريّة أرض الصومال» (175 ألف كلم2) الناشئة في 1991، بعد حرب دامت عشر سنوات، ليعيد إلى الصدارة تاريخاً دامياً عاشه بلد معذّب وفقير.

وإذ تتعطّل العمليّة السياسيّة في ليبيا يتكرّس الانقسام بين شرق البلاد وعاصمته بنغازي وغربها وعاصمته طرابلس، ويكاد يغدو أمراً واقعاً، علماً بأنّ الحرب الأهليّة التي اندلعت في 2014 دامت ستّ سنوات.

ومن باريس، أعلنت «حكومة القبائل في المنفى» استقلالَ «جمهوريّة القبائل الاتّحاديّة» عن الجمهوريّة الجزائريّة. والحال أنّ للأمر سوابق وخلفيّات: ففي 1980 شهدت تيزي أوزو التحرّك الواسع الذي سُمّي «الربيع الأمازيغي» وقوبل بالعنف. بل لم يكن قد انقضى أكثر من عام على استقلال الجزائر في 1962، حتّى أعلن حسين آيت أحمد، أحد أبرز قادة الثورة، عن انتفاضة أمازيغيّة.

أمّا في المشرق فيلوح التفتّت أشدّ خصوبة وعمقاً وأكثر عدداً. فالعراق اعتمد نظاماً فيدراليّاً أتاح قيام إقليم كردستان في الشمال، إلاّ أنّ فيدراليّته المشوبة بالمنازعات والمناكفات، تبقى أقرب إلى مشروع ناقص يستدعي التصحيح والاستكمال. وفي هذه الغضون، لا تكاد تهدأ المطالبة بإقليم سنّيّ في الأنبار وجوارها حتّى ترتفع المطالبة بحكم ذاتيّ في البصرة جنوباً.

وتعيش سوريا أوضاعاً أهليّة غير مطمئنة. هكذا جاءت التظاهرات الأخيرة في محافظتي اللاذقيّة وطرطوس الساحليّتين، والتي رافقتها أعمال عنف، لتفاقم التوتّر الذي عرفته البلاد مع أحداث الساحل والسويداء. وهذا فيما تشتدّ المخاوف حيال ما قد تفضي إليه العلاقة بين السلطة و«قسد»، والاحتمالات الإقليميّة المقلقة التي قد تنجرّ عن ذلك.

ومنذ 2007، وعلى رغم التحدّي الإسرائيليّ الماثل، نفّذت «حركة حماس» في فلسطين انقلاباً تأدّى عنه فصل قطاع غزّة عن الضفّة الغربيّة، وقد نجمت عن الانقلاب أكلاف دمويّة باهظة وقطيعة سياسيّة تامّة.

أمّا في لبنان، فليس سرّاً أنّ الافتراق بين الجماعات الطائفيّة في نظرتها إلى الشأن العامّ يبلغ حدّاً مدمّراً للبلد الصغير ولقدرته على الإقلاع والتعافي. وبدوره فإنّ تاريخ لبنان الحديث وما عاشه من حروب أهليّة مديدة لا يسمحان كثيراً بالتفاؤل حيال المستقبل.

وهذا السجلّ التناحريّ والدمويّ يجد أسبابه في خليط من العناصر تمتدّ من تفاوت المواضي الاستعماريّة والاستقلاليّة، إلى الأنظمة التي لم تطوّر وطنيّات جامعة وجماعات سياسيّة منسجمة ومواطنين متساوين، ومن ثقافة سياسيّة تُعلي الطائفة والدين والإثنيّة والمنطقة على الدولة والأمّة، إلى انتهاء الحرب الباردة التي كانت تحدّ من تفجّر الخرائط التي ارتسمت في عقود أسبق... بيد أنّه مهما تعدّدت الأسباب يبدو الموت واحداً، وهو أنّ البلدان المذكورة لم تتقبّل صيغة الدولة الأمّة ذات النظام المركزيّ.

وحتّى في أزمنة السلم البارد التي سبقت تفجّر الهويّات الصغرى، أو تعايشت مع كبتها، كانت الثقافة السياسيّة في كثير من تلك البلدان تتغزّل بالأمّة الكبرى المتوهَّمة وتمارس الخجل بدولتها وأمّتها القائمتين.

في المقابل، وهو ما يلاحَظ في معظم البلدان المذكورة، ترتبط الحماسة للشكل السياسيّ الراهن بكون الجماعة المتحمّسة أكثريّة عدديّة أو أكثريّة سلطويّة. فإذا تغيّر هذا المعطى تحوّلت الحماسة إلى فتور، وربّما إلى عداء.

وهكذا يبدو اليوم أنّ الإبقاء على الدولة الأمّة ذات الحكم المركزيّ في النماذج السالفة الذكر إهدار للدم وتبديد للموارد وصدّ لكلّ طريق إلى المستقبل. ولربّما جاز تطعيم استلهامنا الدولةَ الأمّة باستلهام المدينة الأمّة في نسخة مُحسّنة تستبعد كلّ تمييز بين «مواطنين» و«عبيد» معاصرين. ذاك أنّ الصيغة الحالية غدت، في تلك الدول، أشبه بجثّة يموت كلّ أعضائها وتذوي قدراتها ما خلا القدرة على ابتلاع الأحياء الآخرين وتحويلهم، بدورهم، جثثاً. ويبدو التمسّك الحَرفيّ الراهن بها في هذه السياقات معاكساً لكلّ ما هو عقلانيّ وكلّ ما هو أخلاقيّ سواء بسواء. لكنّ أسوأ ما في هذا التمسّك، فيما نعيش ما نعيشه، تعطيل النقاش حول البدائل الممكنة وإطلاق قوّة الموتى المدهشة في خنق الأحياء.