د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
TT

عن الحوار والتعايش السلمي

استمع إلى المقالة

عرفت بعض العواصم والمدن التاريخية في الأسابيع الماضية قمماً ولقاءات دولية، قاسِمُهما المشترك الخوضُ في عالم الحوار، وضرورة التعايش السلمي، وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، منها منتدى مؤسسة «آنا ليند» الذي نُظِّم في العاصمة الألبانية تيرانا، والمؤتمر البرلماني الثاني حول الحوار بين الأديان الذي عُقد في روما، وتلاه استقبال البابا ليو الرابع عشر، واجتماع الجمعية البرلمانية لـ«الاتحاد من أجل المتوسط» في ملقا بإسبانيا... وهاته اللقاءات هي اختيار العقلاء، وسبيل يسلكه الحكماء، ومسؤولية إنسانية مشتركة يتحملها بالخصوص، صانعو القرار، والنخب الفكرية والثقافية، من أجل المشاركة الجماعية في بناء السلام في الحاضر والمستقبل.

وكل مرة أؤكد في مثل هاته اللقاءات أن الإسلام دين سلام يعترف بجميع الديانات السماوية ويحترمها ويعترف بالرسل كافة. والحضارة الإسلامية جزء من الحضارة الإنسانية، تقوم على الوسطية والتعايش السلمي، والإيمان بالقيم المشتركة الثابتة، والتفاهم المتبادل بين الحضارات والديانات والثقافات.

وهنا دائماً ما أستحضر سابقة وقعت في تاريخ المغرب، أشهراً قبل استقلاله، إذ في الأول من ديسمبر (كانون الأول) سنة 1955، بعد أسبوعين من عودة الملك محمد الخامس من المنفى، وبضعةُ أشهرٍ قبل استقلال المغرب، شهد القصر الملكي احتفالاً فريداً من نوعه، إذ إن العاهل العائد لتوه من المنفى، ترأس يومذاك مراسيم توشيح المونسينيور أميدي لوفيفر، عرفاناً بجهوده في إقرار التفاهم بين المغاربة والفرنسيين في أثناء الأزمة الحادة التي تميزت بها الفترة الأخيرة من العهد الاستعماري. وقد حرص المرحوم محمد الخامس على أن يولي الأسبقية لتلك البادرة في جدوله الزمني، وهو منهمك في تشكيل الحكومة التي كانت ستنهض بالتفاوض على الاستقلال.

وكان ذلك العمل الرمزي ذا أهمية في انشغالات المغاربة، غير أنه كان في حد ذاته تكريساً لسلوك استقر في عمل الحركة الوطنية المغربية منذ الثلاثينات، من القرن الماضي. ولم يكف الوطنيون قط عن إقامة حوار متدفق مع النخبة في كل من فرنسا وإسبانيا، قصد إقامة جسور للتفاهم والتعاون. والدليل على ذلك مسارعة كتلة العمل الوطني إلى تأسيس مجلة «مغرب» في باريس، وذلك من أجل أن تكون منبراً للحوار.

وفي تلك الفترة وقع شيءٌ كان له ما بعده. إذ بتاريخ 15 فبراير (شباط) سنة 1952 نشر المونسينيور لوفيفر ممثل الفاتيكان بالمغرب، رسالة أوضح فيها أن للكنيسة دوراً متميزاً في بلد إسلامي، خصوصاً أنه بلد مستعمر. وعُرفت الوثيقة المشار إليها بالرسالة، وكانت محرَّرة بأسلوب غير سياسي، ولكنها ألحت على أن دور الكنيسة لا يقتصر فقط على التبشير بالرحمة، بل بالعدل أيضاً. وعلى الفور - كما يوضح إنياس ليب في كتاب له نشره في غمرة الأزمة، سنة 1954 - قام عالِم من القرويين، بفاسْ بالتعبير عن تأييده هو ونظرائه في الجامعة العريقة، للرسالة، ذاكراً أنه آن الوقت لتصفية نهائية لسوء التفاهم بين النخبتين المسلمة والمسيحية. وأما على الجانب المسيحي فإن الرسالة كما يقول ليب لم تُستَقبَل بحماسة إجماعية، وعابت الإدارة على المونسينيور أنه تدخل في السياسة.

وفي هذا الباب كتب مانويل كروز الذي كان مديراً لجريدة «إسبانا» التي كانت تصدر بطنجة، ممجداً محمد الخامس قائلاً: «إن ذلك العاهل كان قائداً خارج المألوف. وكان طبعه السمح قد جعلنا كلنا متسامحين». وأضاف مانويل كروز: «إن محمد الخامس لم يكن فقط سباقاً إلى تحرير شعبه وشعوب العالم الثالث، بل سباقاً إلى التبشير بالتعايش، والحوار، والتفاهم بين الشعوب».

وتعج كتب التاريخ بأمثلة من ذلك، منها ما يمكن أن ننقله عن خلف بن المثنى، الذي وصف بعض الحلقات العلمية الشعبية التي كانت تُعقد في العهد العباسي: «لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة، وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو، والحميري الشاعر، وصالح بن عبد القدوس، وسفيان بن مجاشع، وبشار بن برد، وحماد عجرد، وابن رأس الجالوت الشاعر، وابن نظير المتكلم، وعمر بن المؤيد، وابن سنان الحراني الشاعر، كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في دياناتهم ومذاهبهم!».

وما أحوجنا إلى تمثل هَاتِهِ الوقائع التاريخية التي تجعلنا من أصحاب الحوار، لا انطلاقاً من مواقف آنية، ولا استجابة لظروف وقتية، ولكن لأن مبادئ الإسلام تدعو إلى ذلك وتحث عليه تجسيداً لوحدة النوع الإنساني، وترسيخاً لمبدأ سواسية الناس في الخليقة.