د. سعاد كريم
باحثة لبنانية
TT

«الانهيار الكبير»

استمع إلى المقالة

في مستهلّ رئاسته الثانية بداية العام الحالي، قرّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب اللجوء إلى سياسة حمائية تجارية، ففرض تعريفات جمركية جديدة على واردات من دول العالم؛ حتى على دول تربطها بالولايات المتحدة علاقات تجارية مستقرة، مثل بريطانيا على سبيل المثال، رغم وجود فائض تجاري لصالح الولايات المتحدة، ما تسبّب في حالة من البلبلة والذعر في الأسواق العالمية. أما بالنسبة للوضع الداخلي، فيرى بعض الخبراء الأميركيين أن سياسة فرض تعريفات جمركية واسعة، ستعود بالنفع على اقتصاد الولايات المتحدة.

في ظلّ السياسات التي يتّبعها الرئيس ترمب بالولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، أخذ الحديث يدور عن الكساد العظيم - الكبير في القرن العشرين، الذي أحدث كارثة اقتصادية انطلقت من أميركا، وامتدت إلى كثير من دول العالم قبل أكثر من تسعين عاماً، حيث انهار كل شيء فجأة.

إذا عدنا بالوضع الاقتصادي إلى الوراء إلى فترة ما بين 1918 و1929، أي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، فقد شهدت الولايات الأميركية طفرة اقتصادية استثماراتية هائلة بقيادة القطاع الخاص، حيث تضاعف الإنتاج الصناعي وكثرت القروض بهدف الاستثمار، وتوسعت مشاريع البناء، وارتفع الطلب، وزاد الاستهلاك، وازدهرت سوق الأسهم وبدت البورصة المكان الأمثل لتحقيق الأرباح السريعة.

في خريف عام 1929، شهدت بورصة «وول ستريت»، وهي قلب النظام المالي الأميركي، انهياراً مفاجئاً في يوم 24 أكتوبر (تشرين الأول)، الذي عُرف لاحقاً بـ«الخميس الأسود»، تبعه «الثلاثاء الأسود» في 29 أكتوبر (تشرين الأول)، وخلال خمسة أيام فقط، خسرت السوق فيها أكثر من ثلاثين في المائة من قيمتها، محدثاً خسارة وفقدان مئات الآلاف من الناس مدّخراتهم. وقد حدث ذلك بسبب عرض لبيع 13 مليون سهم لم يجدوا مشترين لها، ما تسبب في فقدان قيمتها. وتجمهرت الحشود أمام «بورصة نيويورك» عقب انهيار عام 1929. والانهيار الذي عُرف بـ«الثلاثاء الأسود»، حدث خلال ذلك الأسبوع، وكان من أكثر الانهيارات المالية تدميراً في تاريخ الولايات المتحدة، ومثّل بداية الكساد الكبير الذي استمرّ لنحو عقد من الزمن، وكان تأثيره سلبياً على جميع الدول الصناعية الغربية.

مع دخول الثلاثينات، تجاوزت الأزمة حدود البورصة، حيث سحب المودعون الأميركيون أموالهم من البنوك، وانهار ما يقارب 8000 مصرف بين عامي 1930 و1933، بعد أن توقفت آلاف المصانع، وانهارت أسعار المحاصيل وخسر معظم المزارعين أراضيهم، وتدنّي الطلب على المنتجات، والانكماش، والتضخم، والفقر، وارتفاع البطالة بعد أن فرضت خسارة الأموال على الشركات خفض إنتاجهم والتقليص من عدد القوى العاملة لديها، وبخاصة بعد أن توقّف المستهلكون المثقلون بالديون عن الإنفاق، ما أدّى إلى تفاقم الوضع وفقدان الثقة.

هذا على الصعيد الأميركي، أما على الصعيد العالمي فألمانيا أيضاً، التي كانت تعتمد على القروض الأميركية لتغطية تعويضات الحرب، واجهت انهياراً اقتصادياً. كما انهارت الديمقراطية الألمانية وصعدت النازية عام 1933. بينما انخفضت قيمة الجنيه الإسترليني في بريطانيا عام 1931، وأغلقت المصانع أبوابها، وتقلّص الحجم التجاري. وفي المستعمرات، انهار كذلك الطلب على السلع؛ ومن أهمها السلع الزراعية. واستمر الأمر كذلك حتى عام 1930، حيث صوّت الكونغرس على قانون «سموت - هاولي» الذي رفع الرسوم الجمركية على أكثر من عشرين ألف سلعة. مُرّر ذلك القانون، وأُقرّ بذريعة حماية الاقتصاد الأميركي، لكن النتيجة أتت عكسية بعد أن فرضت دول أخرى تعريفات مضادة، وانخفضت التجارة العالمية بنسبة خمسة وستين في المائة بين عامي 1929 و1934.

تعدّ أزمة الكساد الكبير واحدة من كبرى الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث، حيث شهد العالم خلالها انهياراً اقتصادياً شديداً تسبب في تدهور كبير للوضع المالي والاقتصادي. ومن بين العوامل التي أسهمت في حدوث هذه الأزمة كان انخفاض الإنتاجية، وتدنّي الطلب على المنتجات، وارتفاع معدّلات الفائدة. وقد لعبت السياسات الاقتصادية الضعيفة دوراً في تفاقم الأزمة وتأثيرها السلبي. وتظلّ أزمة الكساد الكبير محطّ اهتمام ودراسة، وتُعدّ نموذجاً مثالياً، وما حدث بعد هذه الأزمة من إصلاحات اقتصادية نوعية يشكّل حجر الزاوية لتماسك الاقتصاد العالمي. والثقة تبقى العامل الحاسم، إذا فُقدت يمكن أن تؤدي إلى إسقاط نظام بأكمله. الكساد الكبير لم يكن مجرد أزمة اقتصادية؛ بل محطة مفصلية في تاريخ القرن العشرين، وهو تحذير دائم بأن الاستقرار ليس مضموناً، وأن تكرار الأخطاء قد يعيد الكارثة من جديد.

لكن إذا أبقى الرئيس ترمب على سياساته بالنسبة للرسوم الجمركية الضخمة والمزدادة التي أعلن عنها، فمن المرجّح أن تؤدي سياساته غير المسبوقة إلى ركود الاقتصادين الأميركي والعالمي في عام 2025. إلى أين ستصل بنا سياسة فرض الرسوم والرسوم المضادة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية ودول «البريكس» وكندا والمكسيك وغيرها؟!