د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

المدينة «المدورة والمربعة»!

استمع إلى المقالة

ربما لم يَدُر في خلد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور وهو يُصَمم سوراً دائرياً عملاقاً يحيط ببغداد، مركزه قصر الحكم، بأنه كان يضع - مع من سبقه - أسس التخطيط العمراني الذي تجني البشرية ثماره حتى يومنا هذا. كان تصميم بغداد كقرص الشمس. يقال إن الخليفة قد أمر بأن تُخَط المدينة بالرماد أولاً، فأخذ يتجول بين مخططاتها: من مبانٍ، وأسوار، وخندق دائري تحيط به قناة مائية وُضعت كتحصينات عسكرية قبل أن يكتمل البناء عام 763م.

المدن لا تُخطط عشوائياً؛ فهناك مدارس عدة منها «المدرسة الدائرية» (البغدادية) التي تتوسع على شكل حلقات متتالية من المركز، و«المدرسة الشعاعية» التي تنطلق من مركز المدينة على هيئة أشعة، فضلاً عن «النظام الشبكي» (Grid). وربما كان أشهر وأول نموذج في دول الخليج، تصميم دولة الكويت حيث استقطبت البلاد الجنرال هستد في الخمسينات لتخطيط مدينة الكويت بحيث يحيط بها الدائري الأول، ثم الثاني، وهكذا حتى تصل إلى حدودها الجنوبية مع السعودية. ويخرج من العاصمة ما يشبه الأشعة المستقيمة لتُكوِّن مربعات في معظمها أحياء سكنية، ثم تجارية، ومرافق حكومية، وعسكرية، وتعليمية. وقد دُهِشَ الجيل الشاب عندما لاحظ أن كل منطقة سكنية بالكويت كانت تنعم بالاكتفاء الذاتي عندما أغلقت حدودها إبان جائحة «كورونا»؛ فبعد حظر التجول خارج المناطق، لاحظ السكان أن في مقدورهم الوصول إلى قلب الحي السكني أو «الداون تاون» الذي تتوسطه الجمعية ومرافقها التي تضم «كل» مستلزمات الأسرة، بمعنى الكلمة، بما في ذلك البنوك وشركات الاتصالات والتأمين والمدارس ومخافر الشرطة. لا يحتاج المواطن أن يخرج من حيه السكني وحدائقه إلا للضرورة أو للنزهة. ولذلك يحب الكويتيون «جمعيتهم» التي يساهم المواطن فيها، ويحصل في نهاية العام على نسبة من قيمة مشترياته تصل إلى 12 في المائة تُدفع نقداً، باعتباره أحد سكان المنطقة.

الكويتيون في الواقع يعيشون في أحياء سكنية مربعة تسمى في التخطيط العمراني «المدينة الشبكية» تحفها الأشجار من كل جانب، وهي من أصول التخطيط العمراني (الحضري) لتعمل كمصدات للرياح والضوضاء والغبار. ويعد النموذج العمراني الكويتي مذهلاً بحق في بساطته وعمق مقاصده؛ فقد جمع بين أنسنة المدن ورغد العيش. وهو مشابه قليلاً لتقسيم نيويورك وغلاسكو وأبوظبي. يقال إن هذه الشبكة قد جاءت من الرومان. كما أن تجارب البشر - على مر التاريخ - ومآسي الحروب الطاحنة والأمراض وزحف الملايين نحو المدن... دفع العلماء والمختصين إلى تطوير نظام التخطيط العمراني الذي يقف خلف كل مدينة جميلة في العالم.

والمتأمل في التجربة العمانية يجدها تفوقت في صرامة تطبيق «أنظمة البناء» التي تحمي كل المدن والقرى من التشوّه البصري والبناء العشوائي. فحتى الإعلان صارت له في عالم التخطيط معايير دقيقة، تمنع بعثرة شاشاته في الطرقات بأشعتها المزعجة. وأتطلع بشوق إلى تجربة ستكون غير مسبوقة في المنطقة في أكواد البناء لأقاليم السعودية التي أُعلِن عنها، وبدأت بواكيرها في قلب الدرعية.

وقد تأخرنا كثيراً كعرب في هذا المضمار؛ لأننا لم نُولِ لهذه التخصصات الاهتمام المطلوب. فعندما يكون لدينا جيش من أمهر المعماريين، والعقاريين، والرسامين، ومصممي الديكور، هنا ستظهر معالم نهضة جمالية جديدة تعيدنا إلى مجد الأندلس الذي شهد بأننا أمة كنا نقدر الفنون والجمال. فالحضارات لا تخلّدها الجدران، بل الجمال الكامن في تفاصيلها.