مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT
20

أوجلان... وداعاً للسلاح

استمع إلى المقالة

في العنوان محاولة اقتباس أو إسقاط أدبي على واقع سياسي، يبدأ من صاحب رواية «وداعاً للسلاح» للكاتب العالمي إرنست همنغواي، إلى ما دونته الكاتبة الكردية روناك مراد عن تاريخ النضال الكردي في روايتها الشهيرة «حفيدة عشتار». يمتزج النصّان في خليط عن الحب والحرب وما بعدهما، من الأراضي الإيطالية وفظائع الحرب العالمية الأولى، إلى روجافا وجبال قنديل وقندوز وكل مساحات الجغرافيا الكردية التي شهدت انتكاسات كثيرة، وأفراحاً قليلة، وقلة حيلة، ونضالاً من أجل أحلام كبرى تصطدم بواقع جيوسياسي أقوى يقيّد الأحلام ويحدّ من الطموحات.

كان عبد الله أوجلان آخر أكبر الطامحين الكرد، ويمثّل اليوم شجاعة استثنائية في مسيرة نضاله التي بدأت كمقاتل في الجبال، أراد تحقيق كل شيء لشعبه من خلال البندقية، ثم تحوّل إلى أشهر سجين سياسي في تركيا. ترك الحبس أثره على مواقفه، وجعله يفكّر بواقعية دفعته تدريجياً إلى الدعوة لترك السلاح، والوصول أخيراً إلى المصالحة، أو إلى دعوة الأكراد للتصالح مع الجغرافيا التي يعيشون فيها، والذي، بالنسبة إليه، قد يحقق شروط البقاء والحفاظ على الهوية أكثر من البندقية.

يكمل زعيم حزب العمال الكردستاني أوجلان مع الدولة التركية ما بدأه الزعيمان الكرديان الراحل جلال طالباني، ومسعود بارزاني مع الدولة العراقية الجديدة، من إصرار على الاندماج، بالرغم من مرارات العلاقة مع المركز أو تداعيات تجربة الاستفتاء على الاستقلال. لكنهما نجحا في تحقيق جزء من الطموحات الكردية ضمن وطنية عراقية لم تعد مشروطة على مواطني كردستان العراق، بل أصبحت شراكة شبه كاملة في الحقوق والواجبات. وهذا ما يطمح إليه أوجلان في تركيا، وقد دفع عبد الرحمن قاسملو حياته ثمناً لذلك في إيران.

من الزعيم الكردي عبد الله أوجلان إلى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ومن سبقهما في كسر المحرمات السياسية، الراحلان الرئيس العراقي جلال طالباني والرئيس التركي تورغوت أوزال، تعاد قراءة المشهد التركي والعراقي والسوري مع المسألة الكردية بشكل واقعي مختلف، ليست له علاقة بضعف المركز أو ارتباكه في أنقرة أو بغداد أو دمشق، أو بثقل الأثمان التي لم يعد الشعب الكردي قادراً على تحمّلها، بل نتيجة نضج سياسي أدرك، ولو بشكل متأخر أو تدريجي، أن النضال السياسي، وحماية الهوية والتراث وفرض الاعتراف بهما، يوازي العمل العسكري الذي بات أفقه محدوداً. فحمل السلاح فقط من أجل السلاح مقتلة، ومن غير المجدي الربط بينه وبين القضية الكردية أو حصرها به.

في كسر المحرمات السياسية تواريخ تأسيسية: أولها يوم الجمعة 14 يونيو (حزيران) 1991، عندما استقبل الرئيس التركي تورغوت أوزال زعيماً كردياً يحمل السلاح في القصر الجمهوري للمرة الأولى في التاريخ، حيث يقول مهندس اللقاء الصحافي والكاتب التركي الشهير جنكيز شلدار، في كتابه «قطار الرافدين السريع»، ما قاله أوزال: «سيتغير، لن يبقى وضع الأكراد في تركيا على هذا النحو، سيتغير. ولكن عليهم أن يكونوا واقعيين. هذه قضية تحتاج إلى زمن، ستتحقّق خطوةً خطوة، ولكنها تستحق. عليهم أن يعتبروا أن هذه قضية وقت، وستُحل على مراحل».

أما التاريخ التأسيسي الثاني، فهو يوم 27 من فبراير (شباط) الفائت، حين دعا الزعيم عبد الله أوجلان المسلحين الأكراد في تركيا إلى إلقاء السلاح، وحل الحزب، والانخراط في العمل السياسي. هذا الموقف توّجته دمشق باتفاق تاريخي مع «قوات سوريا الديمقراطية» بتاريخ 10 مارس (آذار) المنصرم، يقضي باندماج قوات «قسد» في المؤسسات العسكرية والأمنية السورية، والتأكيد على أن المجتمع الكردي مكوّن أصيل من مكونات الشعب والدولة في سوريا.

نجح الزعماء الأكراد في الفصل بين السلاح وقضيتهم، وفي استثمار تاريخ مقاوم من أجل حقوقهم والدفاع عن هويتهم. وأقنعوا بأنهم لن يبقوا رهائن للسلاح وعواقبه، ورفضوا أن يتحوّل تمسّكهم به سبباً في نزاعات أهلية أو إقليمية. وهذا ما يحتاجه غيرهم من مكونات المنطقة في فك الارتباط بين السلاح والعقيدة، واحتكار امتلاكه، أو تقديمه على كل أنواع المقاومات الأخرى، من جبال كردستان إلى جبل عامل، مروراً بفلسطين المحتلة.