تزخر العاصمة الأميركية واشنطن بالكثير من مؤسسات الأبحاث وخزانات الفكر التي تهدف إلى إجراء أبحاث تجمع بين العمل البحثي والتأثير الإعلامي. فاللغة التي تُكتَب بها المقالات والتقارير تكون عميقة بشكل مقارب للبحث العلمي، وميسّرة بشكل مقارب للعمل الصحافي. كما تقوم المؤسسات بإجراء دراسات ميدانية تتخطى في اهتمامها النقاش النظري؛ فالأرقام والإحصاءات والمقابلات مع الشخصيات المؤثرة جزء لا يتجزأ من عمل هذه المراكز. لذلك، فإن هذه المؤسسات تروج لنفسها بأن هدفها يكمن في إطلاع الحكومة والمواطن على كيفية تحسين الأداء العام في القطاعات المعنية بهذه الأبحاث.
لا يقتصر إنتاج هذه المؤسسات على الأبحاث والمقالات المنشورة على مواقعها الإلكترونية، وإنما تُجري بعض الفعاليات؛ من مؤتمرات وورش عمل ومحاضرات، بعضها مفتوح للعامة وبعضها مقتصر على دعوات خاصة. في المحصلة، يمكن النظر إلى هذه المؤسسات على أنها المؤثر الأعلى في السياسة الغربية -الأميركية بشكل خاص- بعد المؤسسات الرسمية.
معظم الدول ذات التأثير في المعادلة الدولية لها لوبيات تساند قضاياها وتحاول إقناع صانع القرار الأميركي بالتعامل الإيجابي مع تلك الدول. غالباً ما يكون أعضاء تلك اللوبيات من أصل يعود إلى تلك الدول التي يدعمها اللوبي؛ حتى وإن اختلفوا مع حكومات دولهم الأصلية، فإنهم ينظرون إلى دعم تلك الدول من باب الواجب القومي، كون الحكومات عُرضة للتغيير، ولكن المكتسبات الوطنية باقية. ومن أبرز تلك الأمثلة اللوبي الإيراني الذي يدعم الملف النووي ويحاول منع الأعمال العسكرية ضد إيران.
تتسابق اللوبيات على كسب ود الباحثين الواعدين الذين يُنتظر تعيينهم في مناصب رفيعة المستوى في الحكومات المستقبلية، والمسؤولين السابقين الذين ما زال لهم تأثيرهم في التوصيات. وقد برع كل من اللوبي الإسرائيلي والإيراني في بناء علاقات استراتيجية في أروقة المراكز البحثية في واشنطن، حتى سيطروا على بعض تلك المراكز. على سبيل المثال يسيطر اللوبي الإسرائيلي على معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، فيما يحظى اللوبي الإيراني بنفوذ قوي داخل معهد كوينسي.
بالنظر إلى الدول العربية، فإنها لا تملك لوبيات قوية في واشنطن لأسباب كثيرة، أبرزها قلة الباحثين العرب في المجال الاستراتيجي ممن يقيمون في الولايات المتحدة. وحتى تلك القلة، كثير منها منقسم بين من يعمل بشكل دعائي صريح ومن يهاجم بلده الأم. ومن نافلة القول إن النوعين مضرّان ولا نفع منهما!
السؤال القديم الجديد: لماذا لا يكون للدول العربية قوة ناعمة في تلك المراكز؟
الإجابة باختصار تقوم على تحفيز الكفاءات العربية للذهاب إلى التدريب في تلك المراكز، في خطوة أولية للبحث عن فرصة عمل مؤقتة أو دائمة في تلك المراكز.
سيحتاج الأمر إلى بعض الوقت الذي قد يمتد عقداً أو عقدين من الزمن، ولكن النتيجة ستكون فعّالة بشكل كبير يعطي لبلداننا قوة ناعمة تستطيع دعم مصالحها بشكل احترافي ضمن النسيج الطبيعي لقطاع البحث وخزانات الفكر.