د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
TT
20

ترمب ــ أوروبا: نحو نظام عالمي جديد

استمع إلى المقالة

مع الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترمب، دخل النظام العالمي في حقبة جديدة، ودخلنا في تغيرات جيوسياسية واسعة في أوروبا وفي أهداف حلف الناتو، ولربما سنصبح في حقبة تتمأسس فيها 3 كتل في العالم «أميركية وروسية وصينية» إلا أنه قد تعم الفوضى والصراعات الساحة الدولية، وستتكيف كل منطقة في العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة...

لا أحد كان يتكهن أن الرئيس ترمب سيحدث شرخاً عظيماً في جدار النظام العالمي الجديد بهاته الحدة، ولا كل هاته التغييرات الاستراتيجية في العالم، وبالأخص في أوروبا، إلى درجة أن القادة الأوروبيين بدأ ينتابهم خوف وجودي شديد، وهم يعيشون اليوم بين سندان ضرورة المحافظة على الودّ الأميركي، ومطرقة الاستقلال الاستراتيجي العسكري الأوروبي.

استفاقت أوروبا على وقع واقع جديد، كان الرئيس الأميركي السابق بايدن يرسل الأسلحة والعتاد إلى أوكرانيا بكرم وحماس شديدين ودون مقابل مالي، وكان يطمئن حلفاءه في أوروبا على أن الحلف الأطلسي مظلة عسكرية تحميها العيون الاستخباراتية الأميركية، وتغذيها آخر الاختراعات العسكرية الأميركية.

وكان الأوروبيون بذلك في مأمن من أن يؤخذوا في تقلبهم فما هم بمعجزين أو على تخوف، لكن مع الرئيس الأميركي ترمب كل شيء تغير. وجد الأوروبيون أنفسهم مع رجل يجلس على عرش البيت الأبيض، وهو يملك مقاليد السلطة التنفيذية بأكملها؛ كل يوم يأتي بقرارات يوقعها دون اكتراث بأدبيات فصل السلطة في التاريخ الأميركي، وفي صمت عجيب وغير مسبوق من الديمقراطيين الذين لا يحركون ساكناً... وجدوا أنفسهم مع رجل أعمال ذكي وماهر في المفاوضات ولا يخاف العواقب؛ ينظر إلى المساهمة البخسة لأوروبا في مجال تسلحها ودفاعها، وكأن أميركا وصية على وجودها بين الأمم. بدأ بعملية التأديب والترويض للأوكرانيين، وكانت المشادة العلنية اللامسبوقة بين الرئيس الأوكراني زيلينسكي والرئيس الأميركي ترمب في البيت الأبيض، وهي مواجهة على المباشر تناقلتها وسائل الإعلام الدولية في تعجب وذعر أصاب العديد من الدول، وبالأخص الحلفاء الأوروبيون... غيّرت واشنطن في الحين موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية، وجمدت مساعداتها العسكرية لكييف وتبادل المعلومات الاستخباراتية معها... لم تمر تلك الليلة حتى بدأت اجتماعات متتالية للقادة الأوروبيين، يحركهم أحد جناحي الاتحاد الأوروبي، أي فرنسا فقط، بعد أن أصيب الجناح الثاني، وأعني بذلك ألمانيا بمشاكل سياسية داخلية صعبة... والنتيجة اتفاق قادة الاتحاد الأوروبي على خطة لإعادة تسليح أوروبا، تقضي برصد نحو 800 مليار يورو، وبالتأكيد سيخصص جزء كبير منه لشراء السلاح الأميركي، لأن المشكلة ليست في الموارد المالية التي سيجود بها عن مضض دافعو الضرائب في أوروبا، ولكنها مرتبطة بالقدرة الإنتاجية، فأوروبا لا تستطيع إنتاج السلاح بشكل كبير؛ فمصانع الأسلحة قليلة مقارنة مع نظيراتها الأميركية أو الروسية أو الصينية، وهناك حاجة لبناء منشآت جديدة، وتطوير سلسلة الإمدادات، وصناعة مواد أولية لمواكبة الطلب. كما أن الأوكرانيين سيسمحون لأميركا باستغلال معادن أوكرانيا النادرة لتغطية المصاريف العسكرية لإدارة الرئيس السابق بايدن لصالح الأوكرانيين... وحسب معهد كيل الألماني، فإن واشنطن قدّمت بمفردها نحو نصف قيمة المساعدات العسكرية لأوكرانيا في الفترة من 2022 إلى 2024. الرابح اليوم هو أميركا الرئيس ترمب بامتياز، والخاسر الأكبر هو أوكرانيا وأوروبا، وستطول هاته المعادلة، لأن أوروبا لو أنفقت ما في الأرض جميعاً في تسلحها، فلا يمكنها أن تستغني عن أميركا وعن سلاحها وعن استخباراتها وعن أقمار تجسسها وأنظمة مراقبتها وعن هيمنتها وعن دورها المركزي والدركي في الحلف الأطلسي وفي العالم.

وهناك مشكل آخر يؤرق الحلفاء الأوروبيين، هو أن العالم دخل أكثر من أي وقت مضى في مرحلة المجهول والتوجس والغموض واللايقين. ومرد ذلك أنهم لا يدرون ما يخفيه الرئيس ترمب في نفسه كل ليلة ولا يبديه لهم؛ وهو كل مرة يطلب المزيد، لأنَّه في مرحلة قوة ولا يبالي بالأعراف والتقاليد الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية؛ وهو يقدس قاعدة «أميركا أولاً»، ويريد تغيير النظام العالمي الذي ألفته الدول، ونظر له المنظرون منذ عقود؛ ويأخذ قرارات غير مسبوقة ومتتالية. ويكفي أن نستحضر أنه خلال 40 يوماً، أصدر الرئيس الأميركي 79 أمراً تنفيذياً، أي ما يعادل مجموع مراسيم بايدن خلال عامه الأول بالبيت الأبيض. كل هذا يدخل في إطار العقيدة الأميركية الترمبية القائمة على «إحياء الحلم الأميركي» وما تتبعها من سياسات صارمة في مجال الهجرة، وأخرى اقتصادية تقوم على فرض الرسوم الجمركية ضد دول، مثل كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي، وهي مجتمعة تغير النظام العالمي، وتزعزع الأسواق والبورصات، وتسرح العمال، وتؤثر على مستقبل الأحزاب الحاكمة في تلكم البلدان.