وجد الصائغ الألماني يوهان غوتنبرغ نفسه أمام «مفترق طرق» حينما قرر تقليل اهتمامه بصياغة الذهب (حرفة والده) إلى التركيز على اختراع غيّر مجرى التاريخ ونقل المعرفة، باختراعه آلة طباعة الحروف باستخدام صفائح معدنية متحركة.
هذا الجواهرجي، المتحدر من أسرة ثرية، كان يتسلى بحفر حروف النساء على مجوهراته، لكنه شعر بأن البشرية بحاجة إلى ابتكار يحل مشكلة النسخ اليدوي المرهق للكتب، فنجح في تطوير آلة طابعة رفعت إنتاجية النسخ (الطباعة) بنحو 200 ضعف.
وأبلغ دليل على عظمة اختراعه، الذي أطلقه عام 1450م، كان شراء الناس في عصرنا أول إنجيل طُبع بآلته بنحو 20 مليون دولار!
هذا الرجل كان يمكن أن يمضي في طريق التجارة، لكنه اختار عملاً خالداً. وهو إشارة إلى أن التقيد بالتخطيط (الورقي) ليس دائماً فكرة صائبة بالضرورة. فقد تفاجئنا لافتة عند مفترق طرق بمسار أقصر أو أكثر وجاهة من مشاريعنا.
في مسارات الحياة: «مفترق طرق» و«اتجاه جبري». في الأول لدينا رفاهية اختيار كل ما لا يتعارض مع قيمنا. أمّا الاتجاه الجبري الواحد فهو القدر المحتوم، الذي يمكن أن نقلل فقط من تداعياته، بالتأني تارة والاستشارة تارة أخرى. علّنا نصل بأمان إلى الضفة المقابلة.
بعض خيارات الحياة أو إكراهاتها تدفعنا إلى السباحة عكس التيار. مثل الهجرة بحثاً عن حياة أفضل، أو مواجهة الظلم رغم المخاطر، وتغيير المسار المهني تلبية للشغف. أقدار الحياة تأخذنا لآفاق أرحب. فالممثل الأميركي رونالد ريغان صار رئيساً للولايات المتحدة، وكريستيانو رونالدو كان بائعاً بسيطاً ثم صار أغلى لاعبي العالم. والروسي تولستوي يتحدر من أسر النبلاء لكنه اختار الرواية فأصبح ألمع أدباء العالم. ورغم رغد عيشه فإنه كان نصيراً للطبقة الكادحة.
يقول ستيفن كوفي في كتابه «من الفاعلية إلى العظمة» إن الطريق نحو العظمة يتطلب خدمة أكبر قدر ممكن من الناس (انتهى كلامه). ولذلك نجد المخترعين والعلماء والأطباء وحائزي «نوبل» ينالون نياشين العظمة. لأنهم حينما واجهوا مفترق طرق اختاروا الطريق الأكثر وعورة.
الأميركي سكوت بيك يذكر في كتابه -الذائع الصيت- أن الطرق التي «يتجنبها» الناس محفوفة بالمكاره. ولذلك أطلق على إصداره الرائع «الطريق الأقل ارتياداً». وهو مصداق لقول الشاعر أبو القاسم الشابي:
ومن يتهيب صعود الجبالِ
يعش أبد الدهرِ بين الحُفرِ
ويُروى عن الإمام علي (رضي الله عنه) قوله: «لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلة سالكيه».
في عصر التطبيق الملاحي «غوغل مابز» تساوى الناس في سرعة الوصول للوجهة المقصودة. غير أن التفوق الحقيقي يكمن في اختيار الوجهة نفسها، فليس المهم أن نصل بسرعة، بل أن نعرف إلى أين نتجه ولماذا.