د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
TT

قواعد في الدبلوماسية

استمع إلى المقالة

يعرف المتضلعون في مجال العلاقات الدولية أن رئيس الدولة بمقتضى مكانته الدستورية يملك مقاليد الدبلوماسية والسياسات الخارجية، ويقوم بتصريف شؤون الدولة الخارجية مع الدول الأجنبية وأساليب التعامل معها ويقوم بتوجيه عمل الدبلوماسيين، بما فيهم وزير خارجية بلاده والسفراء المعتمدون لدى الدول الأجنبية؛ فهؤلاء هم الممثلون والمنفذون لتوجيهات قرارات الدولة الخارجية؛ فرئيس الدولة إن صح التعبير يقوم بعملية التنظير والاستراتيجية، والدبلوماسيون يصبحون مخططين بامتياز لتنفيذ قرارات الدولة الخارجية؛ أي بمعنى آخر فإن رئيس الدولة يقوم بصياغة الاستراتيجية تماشيا مع مجموع القوى المتوفرة والرهانات والإمكانات؛ كما يجب أن يكون له نسق فكري متقد وعلم ودراية كافية تجعله يستنبط أهم مقومات المرحلة اللايقينية والمستقبل شبه المجهول ليصل إلى الأهداف المرجوة ويحقق الغايات المطلوبة.

كما أن عمل الاستراتيجي يكون مختلفا عن المخطط؛ ففي مجال التدخل العسكري مثلا يكون دور المخطط يتمحور حول كيفية استعمال الأسلحة في المعركة للوصول إلى المردود الأقصى كما يتصوره الاستراتيجيون، أي إن مجال تدخله يبقى مرتبطا بالإجراءات والتدابير المختلفة التي على القيادة الميدانية اتخاذها في مكان العمليات العسكرية؛ وإذا كان هذا هو دوره، فإن هذا يكون شبيها بدور الدبلوماسي الذي عليه أن يقوم بمجموعة من التدابير الميدانية في مكان العمليات الدبلوماسية لتحقيق الأهداف العليا التي سطرها رئيس البلاد.

زد على ذلك أن وزراء الخارجية والدبلوماسيين ملزمون بتطبيق قرارات رئيس الدولة الخارجية سواء اقتنعوا بها أم لا. وهذا يذكرني بما قام به الجنرال-الدبلوماسي كولن باول في حرب أميركا ضد العراق، حيث كان من المنفذين الحرفيين لسياسة بوش في العراق دون أن يكون متفقا معه ومع مستشاري الرئيس من المحافظين الجدد الذين كانوا من معمري البيت الأبيض في تلك الفترة؛ وكل هذا مسطر في مذكرات كولن باول التي نشرها قبل وفاته.

فتصدر كولن باول الذي ينتمي إلى المدرسة المعتدلة، جهود الترويج لحرب العراق عند توليه وزارة الخارجية وساهم في إحداث بون بين الشرعية الدولية القائمة على الحفاظ على النظام العالمي والنظرة الاستراتيجية شبه القانونية التي لا تقوم على نظارات قانونية فلسفية صرفة... فوقع التدخل العسكري الأميركي-البريطاني رغما عن الرفض الفرنسي-الغربي والمثبطات القانونية المتنوعة في الأمم المتحدة، والبقية معروفة.

وكولن باول لا يتحمل المسؤولية لوحده، فأساتذة الفن الاستراتيجي المؤهلون، في عهد الرئيس بوش (الابن)، كانوا المحافظين الجدد، وما زالت سياستهم الخارجية في تلك الفترة وتدخلهم العسكري دون حكمة استراتيجية، يلقيان بثقلهما على السياسة الخارجية الأميركية؛ فحصل ارتباك في العمل الاستراتيجي، لأن أعضاء فريق الدبلوماسية والأمن القومي يعملون في مستويات مختلفة، وعندهم أدوار مختلفة في الدولة، والهياكل التنظيمية الهرمية، والجميع بحاجة إلى احترام دوره وعمله، من تخطيط واستراتيجية وسياسة، ليتم التواصل بشكل فعال، ولتبادل المعلومات فيما بينهم، ومع الشعب الأميركي في نهاية المطاف... وهذا الخلط هو الذي أدى إلى انحراف بعض الأدوار لبعض المؤسسات الأميركية، وبالتالي إلى ضعف في الإنتاج والمردودية، وهذا يحيلنا هنا إلى قيمة دور المستشارين في صياغة الاستراتيجية. والسياسة الأميركية مليئة بالدروس في هذا الجانب.

والضعف في الإنتاج والمردودية هو حصيلة ما يمكن أن نخرج به من مقتضيات خطاب ألقاه مؤخرا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمناسبة الاجتماع السنوي للسفراء الفرنسيين في باريس، تطرق خلاله إلى جملة من المواضيع وعلى رأسها العلاقات الفرنسية-الأفريقية.

غابت الحكمة الاستراتيجية لسنوات في تأطير العلاقات الفرنسية الأفريقية، وفشل الدبلوماسيون المخططون في الخروج بنتائج إيجابية لصالح فرنسا؛ وبنوع من العتاب، انتقد الرئيس ماكرون جحود دول منطقة الساحل الأفريقي التي نسيت، كما قال، أن تشكر باريس على منع وقوعها في أيدي المتشددين، رافضا التلميح بأن بلاده تم إجبارها على الخروج من المنطقة، بمعنى فشل الاستراتيجية والتخطيط الفرنسيين.

انسحبت القوات الفرنسية في السنوات القليلة الماضية من مالي والنيجر وبوركينا فاسو بعد انقلابات عسكرية متتالية، وهي في سبيلها الآن للانسحاب من تشاد والسنغال وكوت ديفوار. وكان رد رئيس المجلس العسكري في بوركينا فاسو الكابتن إبراهيم تراوري، على كلمة الرئيس الفرنسي مدويا عندما قال بالحرف: «هكذا يرى هذا الرجل أفريقيا، هكذا يرى الأفارقة. نحن لسنا بشرا بنظره»، متهما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «بإهانة كل الأفارقة»، وداعيا الدول الأفريقية لإلغاء كل الاتفاقيات مع فرنسا وليس فقط مطالبتها بمغادرة القواعد العسكرية في تلك البلاد.

عندما تفشل الاستراتيجية المركزية في صناعة الحكمة الدبلوماسية، فإنه يحصل ارتباك في العمل الدبلوماسي بأكمله، ويؤدي ذلك إلى ضعف في الإنتاج والمردودية، وهذا هو الجانب الخفي في تفسير فشل العديد من السياسات الخارجية.