الحرب هي السياسة، لكن بوسائل أخرى، كما صاغها المفكر الألماني - الروسي، كارل فون كلوزفيتر، والسلاح قد يغير السياسة، ومن ثم تتغير مصاير الحروب؛ فدائماً من يملك السلاح الجديد تكون له اليد العليا في كتابة المشهد الختامي.
فعلتها روسيا الأيام الماضية، عندما اختبرت صاروخاً جديداً في مسارح العمليات مباشرة، قبل أن تختبره وفقاً للقواعد المتعارف عليها في استخدام الأسلحة الجديدة.
هذا الصاروخ شكَّل حداً فاصلاً بين مرحلتين في العالم، أطلقت عليه روسيا «أوريشنيك»؛ أي شُجيرة «البندق» باللغة الروسية، وهذا الصاروخ يحلق بسرعة 10 ماخ؛ أي عشرة أمثال سرعة الصوت، ولا تستطيع أنظمة الدفاعات الجوية الصاروخية، مهما كانت سرعتها ودقتها، أن تلحق به أو تتصدى له.
كان لافتاً أن يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه عن إطلاق هذا الصاروخ غير الموجود في أي ترسانة سلاح عالمية، وكانت مفارقة أيضاً أن يطلق الصاروخ مباشرة إلى المجمع الصناعي الصاروخي الأوكراني بمدينة دنيبرو، مع إعلان روسيا القصف قبل ثلاثين دقيقة لكل المنافسين الغربيين، خصوصاً الولايات المتحدة، وهي رسالة شديدة الدلالة والمكر بأن روسيا قادرة على إلحاق الأذى بكل أوروبا من دون أن تحرك ساكناً لصد هذا الصاروخ؛ نظراً لسرعته الفائقة، وتأكيد على أن روسيا لديها قدرة مؤجلة تستطيع بها أن تصل لكل عواصم أوروبا خلال 20 دقيقة، في الوقت الذي تراه مناسباً.
من المعروف أن مدى هذا الصاروخ يصل إلى 5500 كيلومتر؛ أي يطول كامل أوروبا، وينتمي إلى ما يسمى «صواريخ قصيرة المدى». وفي هذا السياق ألقت موسكو باللوم على واشنطن؛ لأنها خرجت من اتفاقية الصواريخ قصيرة المدى عام 2019، من دون مبرر واضح. موسكو أقدمت على إطلاق هذا الصاروخ المرعب والخطير الذي يمكن أن يحمل رؤوساً نووية، ويضرب أهدافاً عديدة في نفس الوقت، بعد أن سمحت واشنطن ولندن لكييف بضرب العمق الروسي بصواريخ أميركية وأوروبية.
رجل الـ«كي جي بي» فهم الرسالة، فلم يتأخر في صياغة رسالة هي الأخطر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بل تفوق خطورتها رسائل الصواريخ النووية السوفياتية في الجزيرة الكوبية في مطلع ستينات القرن الماضي، فتلك الصواريخ لم تستخدم في الواقع بعد حل المشكلة آنذاك، لكن «أوريشنيك» ظهر في ميادين القتال بالفعل بما يملكه من رعب وخطر.
أميركا فهمت الرسالة المفاجئة، ارتبكت الحسابات وأضاءت اللمبات الحمراء للخطوط الساخنة بين واشنطن وموسكو، تحدث الطرفان بلغة التحذير من وقوع حرب نووية عرَضية. واشنطن أدركت خطر وأخطار «أوريشنيك»، وتفكر في صناعة صواريخ قصيرة المدى على وجه السرعة، حسبما قال العسكريون الأميركيون في «البنتاغون»، وبدأت تعيد حساباتها في استعادة هذا النوع من الصواريخ الذي كانت قد فككته نتيجة للاتفاق مع الاتحاد السوفياتي السابق، ثم روسيا الاتحادية فيما بعد. واشنطن غير قلقة؛ نظراً لإمكاناتها العسكرية، القلق بات يضرب أوروبا؛ فهي في مرمى النيران المباشرة، وبعد «أوريشنيك» أدركت أنها مكشوفة ومعرضة للانهيار العسكري، وفق توقيت المفاجآت.
سارع بعض السياسيين الأوروبيين الحكماء إلى ضرورة إيجاد مسار سلام مع روسيا، بعد أن كانوا قبل ذلك يصرِّحون علناً بضرورة إمداد أوكرانيا بأسلحة استراتيجية تطول العمق الروسي، ويدعون إلى هزيمة بوتين، وضرورة انتصار أوكرانيا، وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وإلى حلف «الناتو».
رسالة «أوريشنيك» أيقظت أوروبا من أحلامها، وعاجلتها بضربة لا تقل تأثيراً عن ضربة وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وهو الذي يفكر في إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية، كما يفكر في تصفية «الناتو»، والتخلي عن الحلفاء التاريخيين في أوروبا من أجل مصالح أميركا التي يراها في شعار: «أميركا أولاً».
إن رسالة «أوريشنيك» تحمل شفرات روسية حمراء تحتاج إلى من يفك رموزها، فأول الرموز يتعلق بقدرة الكرملين على إيلام أوروبا، برغم العقوبات غير المسبوقة على روسيا القوة النووية؛ فقد فرضت أوروبا وأميركا على روسيا حصاراً شاملاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً وإعلامياً، ومع ذلك استطاعت روسيا أن تتعايش مع مصادرة الأموال الخارجية، ومنعها من النظام الدولي المالي، وتواصل المفاجآت في مسارح العمليات، وبالتالي ستفكر أوروبا وأميركا في اليوم التالي لإطلاق الصاروخ «أوريشنيك».
أما الرمز الثاني في هذه الرسالة فيتعلق بأميركا نفسها التي سارعت بكسر قواعد القانون الدولي، والسماح لأوكرانيا بزرع ألغام الأفراد المجرمة قانوناً، والذي من شأنه أن يؤثر على مستقبل السلام إذا حدث بين روسيا وأوكرانيا، وقد عبرت المنظمات الدولية والأمم المتحدة عن رفضها لاستعادة هذا النوع من الألغام الذي جرمته القوانين الدولية، ونعتقد أن واشنطن بهذا التفكير تريد عرقلة أي اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا، أو تضع الحواجز أمام ترمب إذا نفذ تصريحاته بشأن إيقاف الحرب.
أخيراً، أعتقد أن أهم وأخطر رمز في رسالة بوتين المشفرة، يكمن في أن صاروخ «أوريشنيك» بمثابة عين حمراء للخصوم والمنافسين، وأيضاً يمثل السطر الأول في كتاب النظام العالمي الجديد؛ فالرسالة تقول إما أن نعيش معاً، وإما أن نحترق معاً.