بينما كان العالم يرقب دورة الانتخابات الرئاسية الأميركية بأنفاس الصعداء، دار نقاش عميق في طهران حول تداعيات فوز ترمب من جديد بالسلطة. ومن المرجح أن تعود مع ترمب سياسة «الحد الأقصى من الضغوط» التي فرضت عقوباتٍ صارمة وعزلة دبلوماسية على طهران، ورفعت الردع العسكري الهادف إلى كبح نفوذ إيران في المنطقة وبرنامجها النووي. وأول تداعيات الانتخابات الأميركية على الاقتصاد الإيراني كان انخفاض قيمة الريال الإيراني وارتفاع أسعار الذهب وتراجع سوق البورصة، إذ انخفض الريال انخفاضاً حادّاً، ووصل لأول مرة ما إلى ما يقارب 720000 تومان للدولار الواحد في 6 نوفمبر (تشرين الثاني).
ويرى عديد من المحللين المعتدلين في إيران ضرورة «خفض التصعيد وتطبيع العلاقات بين إيران وأوروبا» بعد انتخاب الرئيس دونالد ترمب، إذ يساورهم القلق حول سلوكه «غير المتوقع»، حسب تعبير وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية. وفي مقابلة مع صحيفة «آرمان»، قال خبير الشؤون الدولية، علي بيغديلي، إن ترمب سيكون «رجل أعمال براغماتيّاً، ولن يسعى إلى حرب» مع إيران. وترى الصحف الإيرانية المعتدلة ضرورة إعادة مدّ الجسور في ظل الولاية الثانية لترمب، في حين تستبعد الصحف المحافظة وجود تأثير كبير للانتخابات الأميركية على مستقبل إيران.
وفي ظلّ هذه الرواية الرسمية، يبدو أن إدارة ترمب ستنتهج سياسة جديدة تجاه إيران، خصوصاً في سياق التوترات الأخيرة، ومنها على سبيل المثال التهديد المباشر الذي أفادت تقارير بأن الجمهورية الإسلامية مارسته ضد الرئيس السابق ترمب في يوليو (تموز) 2024. كذلك، كشفت وزارة العدل الأميركية - على الرغم من النفي الرسمي الإيراني - في 8 نوفمبر عن توجيه اتهامات جنائية إلى رجلٍ يُقال إن إيران كلّفته «مراقبة دونالد ترمب والتخطيط لاغتياله» قبل الانتخابات الرئاسية. وعلى ضوء هذه التوترات، فقد يبرز من جديد برايان هوك، وهو الشخصية الرئيسة التي هندست حملة «أقصى الضغوط» الأولى حين كان يتولى منصب المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران، ما سيُعيد تلك الحملة إلى الأذهان، ويزيد ردود الفعل في الداخل الإيراني.
وفي حال أعادت إدارة ترمب العمل بسياسة «الحد الأقصى من الضغوط»، فمن المرجح أن تعود القيادة الإيرانية أيضاً إلى موقفها المتشدد الذي تتبنى فيه خطاب المقاومة والاعتماد على الذات، إذ وضع المرشد الإيراني خلال الولاية الأولى لترمب موقف الولايات المتحدة من إيران في إطار العدوان الإمبريالي، ودعا الشعب الإيراني إلى مقاومة الضغوط الأميركية. ولا تزال هذه السردية حاضرة، ومن المرجح أن يعيد قادة إيران تبنِّيها أداةً لتحقيق التضامن من جانب الشعب، وتصوير الولايات المتحدة على أنها العدو الخارجي، وتبرير أي إجراءات تُتّخذ ضدها على أنها مواجهة للضغوط الاقتصادية التي تفرضها العقوبات المرجَّح أن يزيد وَثاقها، ولا سيما ضدّ مبيعات النفط الإيراني للصين.
كما أنه من المرجح أن تصعِّد الأجهزة العسكرية والأمنية الإيرانية نبرتها وموقفها، إذ يُشير التهديد الذي وجَّهَته الجمهورية الإسلامية إلى شخص ترمب في يوليو 2024، إلى أن «المتشددين» الإيرانيين يَعُدُّون عودته المحتمَلة إهانة شخصية وآيديولوجية. وقد يستغلّ «الحرس الثوري» الإيراني هذه التوترات في إعادة تأكيد نفوذه على السياسة الداخلية، ويعمد إلى تهميش أصوات «المعتدلين» في الحكومة الإيرانية التي تفضّل الحوار على الصراع. ومن التداعيات أيضاً أن خطر حربٍ عالمية يحوم في الأجواء وَفقاً لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، إذ قال في 9 نوفمبر إن «على العالم أن يعلم أنه في حال تَوسُّع الحرب، فلن تنحصر آثارها في غرب آسيا، بل قد يطول انعدام الأمن والاستقرار مناطق أخرى، حتى البعيدة جدّاً».
ومن شأن عودة شخصيات مثل هوك أن ترفع عدم الثقة والاستياء عند القيادة الإيرانية، إذ كانت تعدّ نهج هوك هجوماً استراتيجيّاً متعدد الأوجه، لم يستهدف اقتصاد إيران فحسب، بل مكانتها السياسية ونفوذها الإقليمي. ومن المتوقَّع أن يقود الآن عملية انتقال الدبلوماسيين الأميركيين. ومن المرجَّح أن يكون رجوعه إلى المشهد مَحَطّ انتباه إعلام إيران ومسؤوليها، وأن يُصوَّر ذلك على أنه دليل على استمرار الموقف الأميركي «العدائي»، بما يهدف إلى حشد العاطفة القومية وتعزيز سردية التهديد الوجودي الذي تفرضه الولايات المتحدة.
كما أنَّ من المرجح أن تفرض عودة سياسة «الحد الأقصى من الضغوط» المحتمَلة ضغوطاً أكبر على الاقتصاد الإيراني، بات الإيرانيون تحت وطأتها، إذ أضرَّت العقوبات التي فرضتها إدارة ترمب الأولى بالاقتصاد الإيراني كثيراً وتركت آثاراً ملموسة حتى اليوم. فالتضخم المُفرِط وانخفاض قيمة العملة ومحدودية القدرة على الحصول على السلع الأساسية باتت أسباباً لسَخَط واستياء الشارع الإيراني الذي ينظر في الغالب إلى العواقب الاقتصادية للسياسات الأميركية من منظور إنساني. وفي حال إعادة تفعيل حملة «الحد الأقصى من الضغوط»، فمن المرجح أن تتفاقم الصعوبات التي تواجهها إيران، بما يرفع السخط الشعبي ويُشعِل فتيل احتجاجات شعبية، كما جرى سابقاً خلال فترات الأزمة الاقتصادية، فقد يكون الشعب الإيراني الشابُّ البارعُ في استخدام التقنية المتطلِّعُ إلى الاندماج في العالم، صريحَ النقد في حال عودة حلقة العزلة. وعلى الرغم من تنوُّع الرأي العامِّ في إيران، فإن عديداً من الإيرانيين ضجِرُوا من الشعور بأنهم تحت رحى التوترات الجيوسياسية، ويسعون إلى جودة أكبر للحياة وإلى الحرية والفرص الاقتصادية.
وقد تختار القيادة الإيرانية الردّ على العقوبات الأميركية بتعزيز «الاقتصاد المقاوم»، من خلال تعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على السلع الأجنبية. أيضاً قد تختار ترسيخ شراكاتها الاقتصادية والعسكرية مع حلفائها في الشرق مثل الصين وروسيا. ومن المرجح أن تقطع «أقصى العقوبات» احتمال الانفتاح الدبلوماسي على الغرب، وأن تزيد عزلة إيران الدولية، ما قد يجعلنا أمام سباقٍ على الإجراءات المضادة. ومع تصاعد التوترات، فسيظل السؤال الأبرز هو: هل النتيجة هي المواجهة أم التسوية؟ إذ يتوقف عليها مستقبل العلاقات الأميركية - الإيرانية وحياة ملايين في إيران وفي المنطقة. ومن أجل تَجنُّب أي تصعيد عسكري مع الولايات المتحدة قد تستغلّ الحكومة الإيرانية المعتدلة بقيادة مسعود بزشكيان تَحسُّن علاقاتها مع أبرز حلفاء الولايات المتحدة مثل المملكة العربية السعودية في التواصل مع إدارة ترمب القادمة.