د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

سيارة الشعب في خطر

استمع إلى المقالة

«فولكس فاغن» أو «سيارة الشعب» كما تعني باللغة الألمانية، تُعَدُّ رمزاً للهندسة الألمانية، ورمزاً كذلك للتقلبات التي حدثت ولا تزال تحدُث في ألمانيا. تعود جذور الشركة إلى أواخر الثلاثينات من القرن الماضي عندما تأسست تحت حكم النظام النازي بوصفها صانع سيارات مملوكاً للدولة بهدف إنتاج سيارات ميسورة التكلفة للشعب الألماني. وبعد الحرب العالمية الثانية، خضعت الشركة للتحوّل تحت إدارة بريطانية، وعادت في وقت لاحق إلى الملكية الألمانية عام 1949، لتصبح رمزاً لانتعاش الصناعة الألمانية. وبحلول منتصف القرن العشرين، لم تعد «فولكس فاغن»، بفضل طرازات مثل «بيتل» وحافلة «فولكس فاغن»، رمزاً لصناعة السيارات فقط، بل أصبحت أيضًا جزءاً حيوياً من المعجزة الاقتصادية الألمانية التي أعادت ألمانيا إلى الساحة الصناعية العالمية. وعلى مر العقود، توسعت الشركة لتصبح قوة صناعية متعددة الجنسيات، تضم علامات مشهورة مثل «أودي»، و«بنتلي»، و«بورش»، ما جعل مجموعة «فولكس فاغن» كياناً قوياً عالمياً. ولكن هذه الشركة عانت من صدمات في السنوات العشر الأخيرة، وضعتها الآن في موقف حرج، فما أهمية هذه الشركة؟ وكيف دخلت في الدوامة الحالية؟ وما تبعات ذلك على ألمانيا؟

بداية، لا يمكن إنكار أهمية «فولكس فاغن» للاقتصاد الألماني؛ فهي أكبر جهة توظيف صناعية في البلاد، وتوظف بشكل مباشر نحو 300 ألف شخص في ألمانيا، ومثلها بشكل غير مباشر، وتؤثر بشكل واسع في الموردين المحليين والاقتصادات الإقليمية وقطاع السيارات كله. في عام 2023، وَلَّدَ قطاع السيارات الألماني أكثر من 564 مليار يورو من العائدات، وكان لـ«فولكس فاغن» دور كبير في تحقيق هذا الرقم. ونجاح أو تعثُّر «فولكس فاغن» يمتد تأثيره إلى ما هو أبعد من قوتها العاملة المباشرة، مؤثراً في آلاف الوظائف في الصناعات المساندة، من موردي القطع إلى مقدمي خدمات اللوجيستيات، ومساهماً في استقرار الاقتصاد الألماني.

وعلى الرغم من قوتها التاريخية، فإن «فولكس فاغن» تواجه حالياً أعمق أزماتها منذ فضيحة «ديزل غيت» في عام 2015، التي أضرت بسمعتها، وتسببت في غرامات وتسويات تجاوزت قيمتها 31 مليار يورو. ودفعت هذه الفضيحة «فولكس فاغن» إلى التحول نحو السيارات الكهربائية بوصفه وسيلةً لإصلاح صورتها، والالتزام بمستقبل أكثر «اخضراراً». ومع ذلك، أثبت هذا التحول أنه مليء بالتحديات، هذه التحديات تتمثل في داخل الشركة نفسها بتغيير خطوط الإنتاج واستراتيجيات الشركة، أما من الخارج فالتحديات تأتي من كل جانب؛ فاللوائح الأوروبية المقبلة تضيف ضغوطًا إضافية على الشركة، فهي تهدف إلى التخلص التدريجي من محركات الاحتراق بحلول عام 2035، وبينما تتماشى خطط «فولكس فاغن» مع هذا الجدول الزمني، فإن عروضها من المنتجات اللازمة لتلبية متطلبات المستهلكين والمعايير التنظيمية قد تأخرت عن الظهور، وتُعد الموديلات الهجينة التي يمكن أن تسد الفجوة خلال هذا الانتقال غير متوفِّرة بعد في السوق الأميركية، وتجعل الاعتماد على تشكيلة غير متطورة من السيارات الكهربائية «فولكس فاغن» عُرضة للغرامات في حالة عدم تحقيق أهداف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

كما تزيد تكاليف الطاقة المرتفعة في ألمانيا من تعقيدات مشاكل الشركة، ما يجعل من الصعب الحفاظ على تنافسية الإنتاج في وجه التكاليف العالمية التي غالبًا ما تكون أقل في مناطق مثل الولايات المتحدة وآسيا، وإنتاج السيارات يستهلك كثيراً من الطاقة، وتضع تكاليف الطاقة المرتفعة في ألمانيا «فولكس فاغن» ومصنعي السيارات المحليين الآخرين في وضع غير مواتٍ، ما يؤدي إلى تآكل الهوامش الربحية في بيئة مليئة بالتحديات بالفعل، ويزيد الضغط على التكاليف بسبب اعتماد «فولكس فاغن» التاريخي على عمليات الإنتاج الكثيفة للعمالة والاتفاقيات ذات الأجور المرتفعة مع النقابات.

وتأتي تحديات أخرى لـ«فولكس فاغن» من الخارج، خصوصاً من المنافسين الصينيين والأميركيين الذين يتقدمون بشكل سريع في سوق السيارات الكهربائية؛ فقد تمكنت شركات السيارات الصينية، بدعم من الإعانات الحكومية والتقنيات المتقدمة في البطاريات، من توسيع إنتاج السيارات الكهربائية بسرعة، والاستحواذ على حصة كبيرة في الأسواق المحلية وحتى في أوروبا، وتراجُع حصة «فولكس فاغن» في السوق الصينية التي كانت يوماً ما مربحة للغاية، يعكس التقدم السريع الذي حققه المصنعون الصينيون، كما تكثفت المنافسة مع الشركات الأميركية، حيث وضعت «تسلا» معياراً للنجاح في مجال السيارات الكهربائية لم تتمكن «فولكس فاغن» وباقي صُناع السيارات التقليديين من مجاراته حتى الآن، وفي الأغلب فإن هذا الجانب سيزداد سوءاً بعد النتائج الأخيرة للانتخابات الأميركية.

واستجابةً لهذه الضغوط المتزايدة، قامت الشركة بتنفيذ سلسلة من التدابير الجذرية لتخفيض التكاليف، فأعلنت عن خطط لإغلاق ثلاثة من مصانعها في ألمانيا، وتقليل آلاف الوظائف، وخفض الأجور بنسبة 10 في المائة بهدف توفير نحو 4 مليارات يورو، هذا القرار، الذي صدم سوق العمل الألمانية، يعكس شدة وضع الشركة الحالي، وفي الولايات المتحدة، تسعى إدارة «فولكس فاغن» إلى تصنيف بعض الموديلات سياراتٍ خفيفةً لتجنُّب معايير ثاني أكسيد الكربون الصارمة، بالإضافة إلى التركيز على إنتاج الموديلات الهجينة لتلبية اللوائح المحلية دون التضحية بالربحية.

إن التراجع المحتمل لـ«فولكس فاغن» سيكون له صدًى يتجاوز الشركة نفسها، ليشكل تحولاً عميقاً في المشهد الصناعي الألماني الذي اعتمد طويلاً على قطاع السيارات بوصفه ركيزة اقتصادية، وتعكس مشكلات الشركة تحدياً أوسع يواجه الاقتصاد الألماني، ويمكن أن يؤثر ضعف الشركة في سمعة البلد بوصفه قوة عالمية في التصنيع والهندسة الدقيقة والابتكار، ما قد يشير إلى فترة من التحول عن التصنيع، هذا التحول ستكون له تداعيات واسعة على التوظيف والناتج المحلي الإجمالي، ودور ألمانيا في الاقتصاد العالمي.