يمر إقليم الشرق الأوسط بمنعطف تاريخي خطير، مفارق لكل مسيرة تحولاته السياسية وتجاربه الإنسانية. فهذه المرحلة الدموية التي تعصف بالمنطقة لربما تحمل في طياتها إمكانات حسم العلاقة الجدلية بين متناقضات فكرية كبرى تدور حول علاقة الدين بالدولة التي فرضتها أزمة الحداثة على الوعي السياسي العربي لعقود طويلة، وكانت وما زالت تشكل هاجساً جوهرياً في خطاب النخب الثقافية والمراكز العلمية. وهي المرحلة أو الأزمة التي لا تختلف في كثير من تفاصيلها عن تجربة بناء الدولة التي عاشتها أوروبا القديمة. فالدولة الوطنية (الوستفالية) التي نشأت في الغرب الأوروبي بصيغته الحداثية العلمانية في منتصف القرن السابع عشر كانت قد فرزت الحقوق والواجبات بين رعاياها وفق محددات الانتماء لهوية وطنية شاملة وجامعة بصرف النظر عن دين الفرد، وثقافته، ولغته، وعرقه، وجنسه. وبالتالي، لم يعد الدين هو المعيار والشرط الموضوعي للتمييز القانوني والسياسي بين المواطنين داخل الدولة. وتحت مظلة هذا التنظيم الحديث للدولة أصبح المسيحي والمسلم واليهودي والبوذي وكل أتباع الديانات والمذاهب والثقافات المتنوعة الأخرى يتمتعون بشكل متساوٍ بالحقوق السياسية والمدنية نفسها؛ لأنهم بكل بساطة يشتركون في هوية موحدة للمواطَنة تحت راية «الدين لله والوطن للجميع». وبموجب هذه المساواة القانونية بين مختلف أفراد المجتمع، فقد ذابت روابط الأمة داخل مفهوم الشعب، وتكبلت إرادة القادة بالفتوحات والحروب بقيود القانون الدولي واحترام السيادة الداخلية للدولة، وانصهرت كل الانتماءات الضيقة والفرعية داخل العقل الكلي للدولة القومية.
وقد استغرقت هذه الترتيبات الغربية لبناء الدولة الحديثة من الأوروبيين قروناً طويلة من الحروب الأهلية والعالمية، واستنزاف شلالات من الدماء، وانتشار الدمار والخراب والكوارث الإنسانية حتى وصل الوعي السياسي إلى هذا النضج التاريخي في الانتماء الحصري إلى الهوية الوطنية للدولة التي لا يعلو فوق سيادتها أي انتماء سياسي آخر. وفي هذا الصدد، اعتبر هيغل أن ملاحم الحروب هي كالرياح التي تهب فوق مياه البحيرة الراكدة فتؤكد للشعوب أهمية مكانة الدولة في الحفاظ على حرياتهم وحقوقهم وإنسانيتهم. وهذا يعني أن الحروب الدامية كانت شرطاً في نشوء الدولة القومية الحديثة التي اعتبر هيغل أنها غاية وموضوع ذاتها والتي لها الحق الأعلى في السمو على الفرد.
بيد أن الشرط الأكثر موضوعية وأهمية في فهم سلطة الدولة الحديثة بالمعنى السياسي الإجرائي هو تعريف ماكس فيبر للدولة بوصفها مجموعة من المؤسسات العقلانية والقانونية التي تتمتع «بالاحتكار الشرعي لأدوات العنف». ومن منطلق هذا التعريف السياسي، لا القانوني، للدولة يصبح وجود كل القوى الدينية والفصائل والأحزاب والوحدات الاجتماعية الوسيطة غير مشروعة إذا شاركت المؤسسات الرسمية حق احتكارها للعنف، فامتلكت الميليشيات العسكرية، والأسلحة، والسجون، وأدوات الإكراه والعقاب، والضبط الاجتماعي بشكل موازٍ للجيش والمؤسسات الأمنية الرسمية. وداخل نطاق هذا التعريف الإجرائي أيضاً أصبحت الدولة الوطنية بمؤسساتها الرسمية هي الفاعل الرسمي الوحيد المعترف به في القانون الدولي، واللاعب الحصري في تفاعلات اللعبة السياسية والعلاقات الدولية. وبهذه الصورة السياسية تشكلت الثنائية المعروفة: إما صيغة دولة وطنية حديثة تحتكر مؤسساتها الرسمية حصراً كل أدوات العنف المشروع، أو صيغة اللادولة التي تشارك مؤسساتها الرسمية للعنف المشروع مجموعة من القوى غير الرسمية كالميليشيات العسكرية، والأحزاب المسلحة، فتتعدد رؤوس السلطة السياسية، وتتنوع أشكال السيادة، وتتشظى قوانين اللعبة السياسية بين أطراف متصارعة تحكمها مصالح متباينة ومتناقضة.
ولأن قواعد اللعبة السياسية في العالم الحديث لا تعترف ولا تقبل بإشراك أي لاعب آخر غير الدولة الحديثة المحتكرة لأدوات العنف؛ فلذلك كانت كل الأحزاب والفصائل المسلحة كـ«حزب الله»، و«حماس»، و«الحشد الشعبي»، و«جماعة أنصار الله» الحوثية خارج قوانين اللعبة السياسية المعترف بها في التفاعلات الدولية. وبهذا المعنى الدقيق، فالمجتمع الدولي ينظر إلى السلطة الفلسطينية بوصفها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني وباعتبارها الجهة المخولة حصراً بامتلاك كل أدوات العنف الشرعي، وهو الأمر الذي يعني أن كل الفاعلين الآخرين خارج مظلتها الرسمية كـ«حماس» و«الجهاد الإسلامي» التي تشاركها استخدام السلاح والعنف مجرد قوى غير شرعية من منظور القانون الدولي وترتيبات العالم الحديث. والحال نفسها تنطبق على علاقة الحكومة اللبنانية بـ«حزب الله» المسلح تسليحاً عسكرياً يوازي قوة الجيش الرسمي للحكومة. ومن التناقضات المثيرة للسخرية، أن الحكومة الإيرانية التي تقمع بقوة السلاح كل الأقليات والجماعات المسلحة التي تحاول أن تنازع الدولة الإيرانية حق استخدامها الشرعي للعنف داخل حدودها، تشجع بالمقابل في البلدان المجاورة خارج حدودها نموذج الميليشيات والفصائل المسلحة التي تنازع حكوماتها الوطنية حقها الشرعي في استخدام القوة.
وهذا الموقف الذرائعي للحكومة الإيرانية الذي يساند جماعات ما دون الدولة منازعتها الحكومات الرسمية في استخدامها الشرعي والحصري للعنف، أسهم بشكل كبير في زعزعة روابط المواطَنة لمصلحة الانتماء والولاء السياسي لمرجعيات دينية خارجية، وأضعف الجيوش الرسمية لصالح الميليشيات العسكرية، وتمزيق سيادة الدول عبر التوظيف البراغماتي لشعارات الأمة الإسلامية. وانتهى تشجيع هذه الازدواجية في الوعي السياسي العربي والإسلامي بإشعال المنطقة بالحرائق، والحروب، والدمار، والكوارث البشرية والعمرانية، وهو حال الحروب الدموية نفسها التي خاضت أوروبا غمارها وتمخضت إرهاصاتها النهائية بإنشاء صيغة الدولة الوطنية بوصفها من أهم منتجات الحداثة الغربية، وباعتبارها النموذج الوحيد والحصري والشرط الرئيسي لأي تجمع سياسي وطني يتطلع أن يصبح عضواً فاعلاً في المجتمع الدولي ولاعباً رئيسياً في ساحاته الدولية. ونموذج منطق هذه الدولة الوطنية التي أنتجتها الحروب المنهكة والتدميرية هو الذي يفرض على الفاعلين الدوليين الذين يتطلعون لإنشاء دولة فلسطينية القبول بأدوات الصراع المعترف بها بقوانين اللعبة السياسية كالحلول الدبلوماسية، وعقد المفاوضات، وحشد التحالفات، والتكتلات السياسية، والنضال السلمي غير المسلح. وهي الأدوات التي توظفها الدبلوماسية السعودية لبناء دولة فلسطينية بعيداً عن الخطابات المتشنجة، والمتوترة، والانفعالية التي أفضت إلى إضعاف موقف المفاوضين الفلسطينيين، ومقتل عشرات الآلاف من الأبرياء والضحايا، وتدمير المدن، وتهجير العوائل، والأطفال.
وعلى النقيض من الخطاب اليساري «الإخواني» الذي يناهض حق الدولة في احتكارها لأدوات العنف المشروع لمصلحة جماعات ما دون الدولة، فمنطق الواقع السياسي يشير إلى أن الخيارات أمام لبنان وفلسطين واليمن وبقية الدول الفاشلة والمنهارة بالمنطقة محدودة. فإما البقاء في حالة اللادولة وما يرافق ذلك من فوضى يسارية، ومن تشظٍ للهويات الاجتماعية، وتوزيع أدوات العنف عند جماعات وفصائل مسلحة وفق النموذج اليساري «الإخواني»، أو اندماج هؤلاء الفاعلين السياسيين بالمشاركة في اللعبة السياسية الدولية من خلال قبولهم بالصيغة الوستفالية للدولة الحديثة طبقاً لنموذج دولة الحداثة وفلسفتها الإنسانية التي يعلو داخلها هوية المواطنة فوق الأمة، ويسمو فيها الانتماء المحلي على الولاء الأممي، وأن يصبح الحفاظ على سيادة الدولة هي الغاية لتسويغ التضحيات الذاتية بدلاً من إزهاق الأرواح لقضايا ميتافيزيقية تتجاوز حدودها ونطاقها الجغرافي. وهذا الإجماع الدولي حول شروط وقوانين اللعبة السياسية الحداثية لن يجعل أمام «حماس» و«حزب الله» و«جماعة أنصار الله» وكل الفصائل المسلحة إلا التجرد من السلاح لمصلحة حكومة شرعية يحتكر فيها جيشها وقواها الأمنية كل أدوات العنف الرسمي، أو ستسحقها قوانين حركة التاريخ التي لا تعترف إلا بوجود صيغة حداثية واحدة للدولة تحتكر مؤسساتها الرسمية كل أدوات الإكراه المادي، وتمتلك الحق الحصري في عقد المفاوضات والمساومات الدبلوماسية. وكما يبدو من قراءة اللحظات الراهنة، فإن رهان صناع واحة الشرق الأوسط الجديد المستقرة سياسياً والمزدهرة اقتصادياً، هو إعادة إنتاج أوروبا الجديدة التي لن يكون فيها مكان لكل جماعات ما دون الدولة المسلحة التي تنتج هويات فرعية مضادة للهوية الكلية للدولة، وتشاركها حقها الشرعي في احتكار كل أدوات العنف والقوة والإكراه المادي. وبخلاف ذلك لن تتوقف دوامة العنف، والدمار، وإهدار حياة الإنسان، وموارده الخاصة والعامة في شرق أوسط متشظٍ تنزلق بعض كياناته السياسية بسرعة نحو هاوية اللادولة السحيقة.