هدَّد الرئيس بوتين مرات عدة بالخيار النووي، ثم اتَّضح أنَّه مجرد مناورة لا أكثر. لكن تهديده، هذه المرة، يأتي على وقع احتلال أوكرانيا لأراضٍ روسية، واحتمال إعطاء الغرب الإذنَ لأوكرانيا بضربِ العمق الروسي بأسلحة بعيدة المدى، مما يجعل هزيمة الأوكرانيين شبهَ مستحيلة؛ لذلك اعتبر بوتين أنَّ استجابة الغرب لأوكرانيا تعادل دخولَه الحربَ مباشرة ضد روسيا، وهذا يبرر لروسيا تفعيل عقيدتِها النووية المشروطة بتهديدِ وحدة البلاد واستقلالها. ولكن هل تهديده فعلاً جدي أم مناورة؟ كبار القادة العسكريين يقولون إنَّه مناورة، وكذلك سياسيون، لكن صناع القرار في واشنطن يتخوّفون من أن يكون جدياً. هذا التخمين الغربي يذكرنا بأقصوصة «الراعي والذئب»، وكيف مَلَّ أهلُ القرية من ادعاءات الراعي الكاذبة، إلى أن جاءَ الذئبُ فعلاً وافترس الأغنام؛ ولكيلا يقع الغرب في المطب نفسه، حرص الرئيس الأميركي في لقائه مع رئيس وزراء بريطانيا المتحمس لتجاهل تهديد بوتين، على تأخير الموافقة على استخدام الأسلحة البعيدة المدى، متجاوزاً بذلك أكثرية مستشاريه، ودعوات كثيرة من الجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس له بعدم الالتفات إلى تهديدات الرئيس بوتين (الجوفاء).
هذا التمهل من الرئيس بايدن المتمرس في الشؤون الخارجية يعود لقراءة موضوعية، حملته على أخذ التهديد على محمل الجد؛ هذه القراءة تتضمَّن على الأقل ثلاثة عناصر جوهرية: أولاً: حرب أوكرانيا في أساسها حرب دفاعية لإبعاد حلف الناتو عن الحدود الروسية، وبالذات بعدما اقترب الحلف وأطاح نظرية الجوار القريب (Near Abroad) المفصلية للأمن الروسي، والتي كان احترامُها شرطاً لقبول روسيا وحدة ألمانيا بعد انفراط عقد الاتحاد السوفياتي. ثانياً: بوتين أحيا القومية الروسية الممزوجة بالدين الأرثوذكسي، ليشكل كما يقول فيلسوف القومية الروسية، ألكسندر دوغين، العالم الحضاري الروسي وقلبه موسكو، ولا يمكن للقلب الخفقان من دون باقي الأطراف وبالذات أوكرانيا؛ ما حدث أن العالم الروسي تحت ستارة الاتحاد السوفياتي انهار، وبذلك قال بوتين: «تحولنا لدولة أخرى، وما بنيناه على مدار ألف عام ضاع»، وبذلك ضاعت الكرامة لدرجة أنَّه اضطر إلى أن يعمل «سائق تاكسي»؛ ووصف ذلك بـ«المأساة الإنسانية».
هذا يدل على عمق الجرح القومي، والرغبة القوية لاستعادة المجد المفقود لأنَّ روسيا الحضارية لا يمكن أن تصبح دولة عادية يتلاعب بها الآخرون. ثالثاً: يؤمن بوتين أنَّ هيمنة دولة واحدة على العالم تضر بأمن روسيا، ودورها الحضاري، ولهذا انتقد بشدة حضارة الغرب الليبرالية وأضرارها على العالم، بالذات اجتماعياً واقتصادياً، وما يتبع ذلك من هيمنة على القرار العالمي، ولذلك طالب بإعادة النظر في تركيبة النظام الدولي، لأنَّ العالم برأيه تغير وأن دولاً عظمى مثل روسيا والصين لن يقبلا بذلك، وكذلك دول أخرى في طور الصعود مثل تركيا والبرازيل وإيران والمملكة العربية السعودية لا يمكن تجاهل دورها في صياغة نظام عالمي أكثر استجابة لمصالحها. هذه العناصر الثلاثة تؤكد محورية أوكرانيا للرئيس بوتين، وأنَّ خسارته لها تمثل «تراجيديا» للعالم الحضاري الروسي، وبهذا تصبح أوكرانيا لروسيا: مسألة قومية كبرى. كما تثبت تصرفاته قبل أوكرانيا، بتدخله في الشيشان وجورجيا، وضمه لجزيرة القرم، ودعمه للانفصاليين في شرق أوكرانيا، تثبت أنه ماضٍ في تفعيل نظرية الجوار القريب لإقامة العالم الروسي. ولمَّا لم يتوقف الغرب عن التمدد صوب حدوده، اجتاح أوكرانيا، فرد الغرب بقبول دول جديدة في «الناتو» كان آخرها السويد وفنلندا، وبذلك ارتفع منسوب الخطر إلى أعلى درجاته، وأصبحت أوكرانيا خط الدفاع الأخير، وانتصاره فيها مسألة وجودية، تتطلب، كخيار وجودي، استخدام السلاح النووي.
هذا الخطر الوجودي يقابله عناد أوكراني، وقناعة غربية أن انتصار بوتين ضار جداً بالنظام العالمي، وله ارتدادات سلبية كبرى تطول تايوان والصين، ومناطق أخرى من العالم، مما يعني أن انتصار بوتين المطلق لا يمكن التعايش معه. بهذا تصبح أوكرانيا معادلة لأزمة صواريخ كوبا، ولا بد للأطراف من حل خلَّاق يبعد شبح الحرب النووية. يرى البعض في الغرب أن الحل في إطالة حرب الاستنزاف ومعها سيضطر بوتين بسبب الخسائر الاقتصادية والبشرية إلى أن يأتي للتفاوض، ولا ضير عندها بإعطائه بعض المكاسب، أو كخيار آخر، انتظار الوقت على اعتبار أنَّ بوتين يتقدَّم في السن، وسيأتي من يخلفه لكي تُفتح صفحة جديدة. لكن هذه الحلول مخدرة ولا تتناسب مع الوضع المتفجر، وبالتالي يبقى حلان: إمَّا الاعتراف بحق بوتين بمنطقة عازلة في الشرق الأوكراني وإعطائه جزيرة القرم وضمان حيادية أوكرانيا، أو دعم أوكرانيا بكل أصناف الأسلحة اعتقاداً أنَّ بوتين يناور ولن يستخدم الخيار النووي، لأنه زعيم عقلاني ويعرف أنَّ «النووي» تدميرٌ فنائي للجميع. الأقصوصة الشعبية تعلمنا أن من يهدّد كثيراً، قد يصدق أخيراً.