مع أن حديث عبد الحميد أبو سليمان عن «النظرية التقليدية»، أو تراث الفقهاء المسلمين في رسالته للدكتوراه، كان حديثاً غامضاً ومشوشاً، فإنَّه ما لبث أن أبرم حكماً متمماً به حديثه الغامض والمشوش عن تراث الفقهاء المسلمين. هذا الحكم هو «إخفاق الفكر التقليدي». قال ابتداء تحت هذا العنوان: «عندما يتكلَّم الكتاب عن النظرية التقليدية الإسلامية، فإنهم لا يتكلمون عن القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، ولكنهم يرجعون عادة إلى التأملات الفقهية الإسلامية...». وبعد أن أوضح المقصود بهذه الملحوظة، أحال إلى كتابات مكتوبة باللغة الإنجليزية، هي:
«تاريخ القانون الإسلامي» لنويل ج. كولسون، و«من القانون الديني إلى الوطني» وهي دراسة لمجيد خدوري تضمنها كتاب «التحديث في العالم العربي» الذي قام بتحريره ج. هـ. تومسون ور. د. رايشاور، و«القانون الإسلامي» لسعيد رمضان. وأحال إلى كتاب مكتوب باللغة العربية، هو كتاب «الفقه الإسلامي: مدخل إلى دراسة نظام المعاملات فيه» لمحمد يوسف موسى. وقال: «ولقد تقيَّد الدارسون والنقاد المحدثون ومن تبعهم من أنصار هذه المدرسة الفكرية، بشكل عام، بالاستنتاجات التي توصل إليها الفقهاء التقليديون، صارفين الأنظار عن الكيفية التي تم بها التوصل إلى تلك النتائج»، ثم أحال إلى ثلاثة مراجع أجنبية وإلى مرجع باللغة العربية.
المراجع الأجنبية هي: «الإسلام والحيادية» لفائز صايغ، وهي دراسة تضمنها كتاب «الإسلام والعلاقات الدولية»، وهو كتاب حرَّره جي. هـ. بروكتر، و«الحرب والسلام في القانون الإسلامي» لمجيد خدوري، و«القانون الإسلامي» لسعيد رمضان.
المرجع العربي كان كتاب «آثار الحرب في الفقه الإسلامي» لوهبة الزحيلي.
وقال أيضاً: «ولم يعط الكتاب المعاصرون الشيء الذي يستحق الذكر، بل لم يولوا أي اهتمام لمنهجية هؤلاء الفقهاء ولا إلى الظروف التي كانوا يعملون تحت طائلتها. وتعامل النقاد مع الفكر الإسلامي التقليدي من خلال الإطار المرجعي الغربي الحديث بدءاً من الفرضيات الخاطئة حتى الوصول بهم إلى الاستنتاجات المماثلة».
أكمل كلامه هذا، فقال: «ومع أن الموالين إلى هؤلاء (يقصد بهؤلاء الفقهاء الأقدمين) قد حاولوا مواجهة التحديات الحديثة عن طريق استمرارية التفكير باستخدام المعايير القديمة، فإنهم أخفقوا في تفهم الظروف الجديدة المتغيرة والمستجدة على الدوام. وهكذا اجتهدوا تقديرياً كمحاولة منهم لإعادة بناء النظام الاجتماعي الإسلامي حتى يتلاءم مع المطالب المتنازع عليها بين النقاد وحتى يرضوا النزوات الانفعالية ويشبعوا الرغبات العاطفية للمسلمين حين لم يتحقق على الإطلاق إلا النزر اليسير من ذلك للقضية الإسلامية».
في المقتبسين الأخيرين، لم يحل إلى مراجع؛ مما يعني أن الملحوظتين اللتين تضمناها هما ملحوظتان خاصتان به، لم يستمدهما من مراجع يحيل إليها.
أول مشكلة تواجهنا هي معرفة هل «الكتّاب» في المقتبس الأول هم «الدارسون والنقاد المحدثون» في المقتبس الثاني و«الكتاب المعاصرون» في المقتبس الثالث أم أننا أمام ثلاث فئات منهم؟
ثاني مشكلة أن هؤلاء كثر متعددون، فيهم أناس من الغرب وأناس من البلدان العربية وأناس من البلدان الإسلامية. فهو - على الأقل - لم يحدد هويتهم المنهجية أو الأيديولوجية أو البلدانية.
ثالث مشكلة هو يتحدث عن تراث فقهاء الإسلام لكن بطريقة غائمة تفتقر إلى التحديد ويعوزها الوضوح. وهي الطريقة نفسها التي أشار فيها إلى «الكتّاب» وإلى «الدارسين والنقاد المحدثين» وإلى «الكتاب المعاصرين» بإزاء هذا التراث، طريقة تجعلك تسأل نفسك غير مرّة: يا ترى من هم هؤلاء؟
رابع مشكلة، من هم الفقهاء التقليديون في المقتبس الثاني؟! هل يعني بهم الفقهاء القدامى؟
إنه يعني بهم الفقهاء القدامى. وهذا التصنيف يفترض أنه ابتداء من القرن الثاني الهجري انقسم الفقهاء إلى تيارين: تيار تقليدي وتيار تحديثي!
تقسيم الفقهاء إلى فقهاء تقليديين وإلى فقهاء تحديثيين يستعمل في العصر الحديث لا العصر الإسلامي الوسيط.
خامس مشكلة أن الملحوظات التي أوردها لا سياق لها في موضوعه الذي عنونه بـ«إخفاق الفكر التقليدي». فهي منتزعة من مراجع وردت فيها في سياق مختلف عن موضوعه. لهذا السبب برزت الملحوظات التي أوردها في موضوعه دون سيقان.
سادس مشكلة، وهي المشكلة الكبرى، أنه لم يبين كيف أخفق الفكر التقليدي، وأين أخفق.
أنهى الحديث عن موضوعه بإشارة مقتضبة إلى ما يمكن تسميته «تحدي العصرنة»، الذي فرضته الحضارة الغربية على الفكر الإسلامي، فقال: «وفي ظل هذه الأوضاع كان الجدل حول الجهاد الهجومي إزاء الجهاد الدفاعي، والقانون الشخصي مقابل القانون الإقليمي، والحياد مقابل التحايد؛ جدلاً غير ذي جدوى. واقتضت متطلبات الضرورة اكتساب وتوظيف أدوات ومناهج جديدة».
إن الجهاد في الإسلام والجدل حوله: هل هو جهاد هجومي أم جهاد دفاعي أم هو جهاد هجومي وجهاد دفاعي؛ هو ما كان يجب أن يتحدث عنه في موضوعه، ويقول رأيه فيه، لكنه تهرب من ذلك لكيلا يتضح إلى أي فريق يصطف. وللحديث بقية.