ميرزا الخويلدي
كاتب و صحفي سعودي
TT

المنتديات الأهلية و«الشريك الأدبي»

استمع إلى المقالة

في سبتمبر (أيلول) 2022، وفي أكبر مؤتمر عالمي مخصص للثقافة هو مؤتمر «اليونيسكو العالمي للسياسات الثقافية والتنمية المستدامة»، الذي عُقد في المكسيك، اعتمدت 150 دولة مشارِكة بالإجماع إعلاناً طموحاً وتاريخياً بشأن الثقافة، وقد أكدّ نصّ الإعلان على أنَّ الثقافة هي: «منفعة عامة عالمية»، ودعا إلى دمج الثقافة بوصفها «هدفاً محدداً في حد ذاته» في أجندة التنمية لما بعد عام 2030، واتفقت الدول على اتباع خريطة طريق مشتركة تعزز السياسات العامة في هذا المجال.

وبتعبير أودري أزولاي، المديرة العامة لـ«اليونيسكو» فإن «الثقافة تؤدي دوراً أساسياً في مجتمعاتنا، ويتمكَّن كلُّ شخص عبر الثقافة من سبر أغوار ما يجمعه ببقية البشر وبناء شخصيته بوصفه مواطناً حرّاً ومستنيراً. والثقافة هي العمود الفقري الذي يجمع بيننا لكي نشكِّل المجتمع».

في السعودية، أحدثت «رؤية المملكة 2030»، تحولات هائلة في صياغة مفهوم الثقافة التي انعكست على المشهد الثقافي السعودي. وضمن هذه «الرؤية» تُعدّ الثقافة أحد أهم محركات التحول الوطني نحو التنمية البشرية، وتنظر إلى الثقافة بوصفها أسلوب حياة، وعاملاً يساعد على رفع مستوى جودة الحياة، ومن خلال وزارة الثقافة خرجت الثقافة من القوالب الصغيرة للمؤسسات الثقافية نحو الفضاء الواسع الذي يعبِّر زمانُه ومكانُه وآثارُه وبقايا الذاكرة عن معين ثقافي لا ينضب، وابتكرت وزارة الثقافة عشرات الفعاليات التي كسرت النمط التقليدي الذي اعتاد الناس عليه في الأنشطة الثقافية، واستوعبت الفنون البصرية وفنون الأداء والموسيقى والمسرح والسينما، كما استوعبت ابتكارات الشباب... وأصبحت الثقافة قريبة جداً من الناس، ومعبّرة عن أحوالهم، وعن تطلعاتهم.

لكن أمامنا اليوم تجربتان؛ واحدة رائدة استطاعت وزارة الثقافة أن تخلق منها تجربة نجاح في تعميم ونشر الثقافة، وتجربة أخرى متعثرة بحاجة إلى أن تنتشلها الوزارة، وتأخذ بيدها حتى لا نفقدها.

الأولى تجربة «الشريك الأدبي»، وهي مبادرة أطلقتها هيئة الأدب والنشر والترجمة التابعة لوزارة الثقافة في مارس (آذار) 2021، وتسعى لعقد شراكات أدبية مع المقاهي؛ بهدف ترويج الفعاليات الثقافية والأدبية والموسيقية بأسلوب مبتكر، ولكي تصبح في متناول أفراد المجتمع.

وقالت الهيئة إنها تهدف من خلال «الشريك الأدبي» إلى جعل الثقافة أسلوب حياة، وإلى تعزيز قيمة الأدب في حياة الفرد، وإلى تعزيز دور مؤسسات القطاع الخاص، وخصصت لهذه المبادرة جوائز مالية سخية يبلغ مجموعها مليون ريال، مع توفير حوافز إضافية كتوفير الكتب ودفع تكاليف استضافة المشاركين وغيرها، ولذلك نشطت عشرات المقاهي التي أنشأها أصحابها لبيع القهوة والمشروبات الأخرى في استدراج الزبائن عبر إغرائهم بفعاليات أدبية يغلب عليها الشعر والموسيقى. والنتيجة أنه صار لدينا مكان نحتسي فيه القهوة، ونستمع لشاعرٍ يلقي قصائده... أو قاصٍّ يقرأ نصّاً، أو عازف يؤدي وصلة موسيقية.

في المقابل كان لدينا تراث ثقافي أصيل على مدى عقود من الزمان، يتمثل في المنتديات الثقافية أو ما يعرف بالصالونات الأدبية، وكانت في الغالب تعبيراً عن شعبية العمل الثقافي والأدبي وعفويته حيث ينمو ويترعرع في رحم المجتمع بوصفه منتجاً يعبّر عن مكانه وزمانه. يلتقي في فنائها المفكرون والشعراء والفنانون والموسيقيون، وأهل الأصالة والحداثة، وأصحاب الوظائف الرسمية وممثلو المجتمع المدني، وكلهم يعبّرون عن آرائهم وأفكارهم ويتحاورون فيما بينهم، مع الحرص على تشجيع النقد الاجتماعي والفني والأدبي رغبة في أن ينتج الحوار فهماً أكبر ووعيا أكثر رسوخاً.

هذه المنتديات الأهلية بحاجة إلى أن تلتفت لها وزارة الثقافة لكي تنتشلها من التعثر، مع الحاجة لإيجاد إطار ينظم عملها، ويدفعها للمشاركة في لعب دورها الذي دأبت عليه في إثراء المشهد الثقافي، وتعزيز خطاب الاعتدال والتسامح، وإشاعة روح المسؤولية، وترسيخ الوعي، وخلق حراك ثقافي يشارك بإيجابية في تطور المجتمع نحو الأفضل.

كانت المنتديات الأهلية نوافذ لتجديد هواء الثقافة في المملكة، تصب في مصلحة الوطن، وكان أحد أبرز نجاحاتها إشراك المرأة مبكراً في فعالياتها حضوراً وإلقاءً إيماناً بأن مشاركة المرأة يمكنها أن تنتج وعياً جديداً قائماً على التصالح مع الذات ومع العالم، والقبول بفكر منفتح ومتعدد، في حين أن غياب المرأة أخلّ بالتكوين الثقافي، وأفقد المجتمع صورته الطبيعية.

إنها دعوة لوزارة الثقافة ولهيئة الأدب لكي تنظر في إمكانية معاملة المنتديات الأهلية معاملة «الشريك الأدبي»؛ تعزيزاً للثقافة، وترسيخاً لمكانتها في المجتمع.