اتضح في الأشهر الأخيرة نمطٌ من التضامن العالمي مع أهل غزة حرّكته دوافع إنسانية، وشكّلته أساساً منصات التواصل الاجتماعي قبل المحطات التلفزيونية وكبريات الصحف، حين نقلت بالصوت والصورة المآسي اليومية للنساء والأطفال، وجرائم الإبادة الجماعية بحق المدنيين العزل.
والمؤكد أن هذه الحرب طرحت حالةً من التضامن الإنساني، عابرة لكثير من الانقسامات الآيديولوجية، خصوصاً في «البلاد البعيدة» وتحديداً في كبريات الدول الغربية وغيرها، فمواقف كثير من طلاب الجامعات الأميركية من حرب غزة حرّكتها الدوافع الإنسانية التي أزالت الغبار عن حزمة من الأفكار والمبادئ التي ترفض القتل العشوائي والكراهية، وليس عندها استعداد أن تتسامح مع استهداف المدنيين العزل تحت مبرر أميركي واهٍ يقول «من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها»، والذي بات مدخلاً لارتكاب جرائم غير مسبوقة بحق المدنيين لم يعرفها «عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية».
صحيح أن التضامن الإنساني لم يكن «منزوع السياسة» بالكامل، وأن الكتابات المدنية والحقوقية حول المساواة بين الشعوب، ورفض المعايير الغربية المزدوجة، كانت حاضرة في احتجاجات الطلاب وأصوات كثير من التيارات السياسية التي نزلت الشوارع تطالب بوقف الحرب، إلا أن التحول الكبير الذي حدث يرجع إلى دور «الصوت والصورة» في نقل ما يجري في غزة من أنين الأمهات الثكالى، وكذلك صور أشلاء الأطفال التي حرّكت الناس للتضامن مع أهل غزة، وليس أساساً الكتابات التي تبنّت قيماً مدنية وحقوقاً متساوية بين الأمم والشعوب والتي حرّكت احتجاجات سابقة، لكنها لم تحرّك هذه الاحتجاجات.
علينا أن نتأمل الفارق الكبير بين دوافع احتجاجات الطلاب في 1968، واحتجاجات اليوم على حرب غزة، وهي المقارنة التي شغلت بال كثير من الصحف ومراكز الأبحاث الأميركية، ولكن غاب عنها جانب مهم يتعلق بتفرد حضور البعد الإنساني في الاحتجاجات الحالية.
صحيح أن أحد الدوافع الرئيسية وراء احتجاجات 1968 في فرنسا وأميركا كان وقف الحرب في فيتنام، مثلما يطالب الطلاب اليوم بوقف الحرب في غزة، ولكن مع فارق أساسي هو أن طلاب جامعة نانتير الفرنسية الذين تظاهروا احتجاجاً على حرب فيتنام وقمعتهم الشرطة بشدة كانت تحركهم آيديولوجيات يسارية بعضها ينتمي لما عُرف بـ«اليسار الجديد»، والبعض الآخر ينتمي لتنظيمات ماوية وتروتسكية وُصفت بـ«اليسار الثوري»، أو المتطرف، وكل هؤلاء كانت منطلقاتهم الآيديولوجية التضامنَ مع فيتنام ورفض الحرب الأميركية، يسارية وثورية، وكان الكتاب الفكري والتنظيم السياسي الثوري والبرنامج الحزبي، البوتقة التي تربى فيها هؤلاء الشباب ودفعتهم نحو الرفض والاحتجاج، وكان حضور الصورة محدوداً، ولم تكن هناك فضائيات عربية أو أجنبية ولا منصات تواصل اجتماعي، وفرض الجيش والإدارة الأميركيّان حظراً كبيراً على نشر أي أخبار أو صور تأتي من فيتنام.
ولنا أن نتصور وزن الآيديولوجيا السياسية في تعبئة طلاب فرنسيين ضد حرب فيتنام التي لا تشارك فيها بلدهم ولا يشاهدون صورها، ومع ذلك كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء اندلاع واحدة من أكبر وأعنف الثورات الطلابية في العالم، وكان اعتقال الشرطة لمئات الطلاب الذين تظاهروا رفضاً لحرب فيتنام سبباً في إشعال فتيل ثورة مايو (أيار) 1968، وأدت إلى إقدام زعيم كبير مثل ديغول على الاستقالة في عام 1969.
إن الآيديولوجيا السياسية كانت المحرك لمعظم الاحتجاجات التي شهدها العالم في العقود الماضية، وإن الأمر اختلف فيما يتعلق بحرب غزة، فالصوت والصورة والوسائط البديلة على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، خلقت طوفاناً حقيقياً من التضامن الإنساني مع أهل غزة، حرّكته الجرائم المروعة التي تجري بحق المدنيين العزل، فالغالبية العظمى من هؤلاء المحتجين المتضامنين لا يتعاطفون مع آيديولوجية حركة «حماس»، فنقول مثلاً إن الإسلاميين في أوروبا وأميركا هم الذين ينزلون إلى الشوارع للتضامن مع «الأممية الإسلامية» في غزة، كما فعل الطلاب اليساريون في ستينات القرن الماضي حين تضامنوا مع رفاقهم اليساريين في فيتنام ضد «الإمبريالية الأميركية»، إنما تضامن مع غزة طوفانٌ من البشر يضم مختلف الأديان والأعراق بمَن فيهم اليهود، خصوصاً في أميركا، وأعلنوا رفضهم لتلك المجازر المروعة للضمير الإنساني من دون أن يعرفوا بالضرورة كثيراً عن القضية الفلسطينية، ولا عن الانقسام الفلسطيني، ولم ينتموا إلى آيديولوجية «فتح» ضد «حماس» أو العكس، إنما على الأرجح هم «ضد الاثنتين» ومع الأبرياء العزل.
صحيح أن تضامنهم الإنساني دخل في قنوات سياسية تطالب بوقف الحرب، والمساواة بين الشعوب، ورفض المعايير المزدوجة، إلا أن هذه القنوات لم تكن ستخرج بكل هذه القوة والعنفوان ما لم يكن هناك «صوت وصورة» صنعا هذا التضامن الإنساني الهائل في مختلف دول العالم، وبات في ذاته يشبه «الآيديولوجيا الجديدة».