أنطوان الدويهي
أستاذ جامعي لبناني
TT

كيف الخلاص من العنف البشري؟

استمع إلى المقالة

«الجمال سينقذ العالم»... هذه العبارة العائدة لدوستويفسكي، ما سرّ حضورها وانتشارها، على الرغم من غموض معانيها ومراميها؟ مع ذلك لم يتبنَّ الروائي الروسي يوماً هذه العبارة، وهي واحدة من آلاف الأفكار والمشاعر التي نجدها في حوارات المئات من أشخاصه التي لا ندرك حقيقة موقفه الذاتي منها. وقد وردت هذه الجملة في رواية دوستويفسكي «الأبله»، الصادرة عام 1868، بشكل سؤال وجَّهه أحد الأشخاص، إيبوليت تيرانتياف، وهو شاب ثائر مصابٌ بالسل، إلى الشخصية الرئيسية في «الأبله»، الأمير ميشكن، قائلاً: «هل صحيح أيها الأمير أنك قلت ذات مرة إن الجمال سينقذ العالم؟».

تُرى مِن ماذا، ومِن مَن، وكيف سينقذ الجمال العالم؟ لا إجابة واضحة عن هذه التساؤلات، لكن من المرجّح أن الجمال سينقذ العالم من العنف البشري الذي أفظع أشكاله الحرب، ومن صنّاع الحروب والساعين إليها، ومن الفتن وأعمال القتل والتنكيل والتعذيب في كل زمان ومكان. وما الطريقة؟ لا شك أن الوصول إلى الشعور الجمالي هو علامة ترقٍّ روحي وإنساني عميق يتناقض مع العنف الصادر عن «الجانب الحيواني» في الإنسان، هذا الكائن البالغ التعقيد. وإذا ما تكوّن الشعور الجمالي، وتجذّر في النخب والقيادات، وفي مرحلة ما، في الجماعات، يكون هو العلاج السحري للعنف البشري. هل يمكن ذلك؟

إذا كانت عبارة «الجمال سينقذ العالم» تحمل هذا الجاذب وهذه القدرة على البقاء والانتشار، فلأن جميع السبل الأخرى المناهضة للعنف البشري باءت بالفشل. في الحاضر المأساوي، وعلى مدى التاريخ. وها هو إنسان القرن الحادي والعشرين، الصهيوني في فلسطين، والقومي الروسي المتشدّد في أوروبا، يشعل حرائق الحروب المدمّرة في غزة، كما في أوكرانيا. عشرات آلاف القتلى هنا، ومئات الآلاف هناك، والآتي أعظم.

من البدايات، منذ ما قبل التاريخ إلى اليوم، لم ينفع شيء في وجه العنف البشري. كانت غاية الطقوس في المجتمعات السحرية الأولى محاولة كشف ألغاز الوجود والطبيعة، وتمكين الإنسان من تجنّب الكوارث والسيطرة على العالم الحيواني، لكسب صراع البقاء. لم تكن النزعة السلمية غاية الطقوس السحرية على مدى تلك القرون الطوال. ولم تكن هي غاية الأساطير المقدسة في الحقبة التي تلتها طوال آلاف الأعوام، حقبة تعدد الآلهة الوثنية، المتحاربة في ما بينها، ومع البشر. ولم تكن النزعة السلمية ملازمة لبدايات التوحيد، خلال مئات الأعوام من التاريخ التوراتي، المنتقل شيئاً فشيئاً من تعدد الآلهة إلى الإله الواحد يهوه، إله قومي يقود شعبه في حروبه المستعرة ضد سائر الشعوب. وبعدما تكرّست روحانية التوحيد مع مفهوم الله الواحد الأحد، إله الكون والبشرية جمعاء، في الحقبة التوراتية الأخيرة، ومع المسيحية والإسلام خلال 2000 عام، استمرّ العنف البشري دون هوادة، واستمرّت الحروب في كل مكان.

وما لم تستطع تحقيقه الروحانيات الدينية المرتكزة على الإيمان، عجز الفكر الفلسفي المستند إلى العقل بدوره عن تحقيقه، باتجاهاته المثالية والماورائية والمادية والإنسانية والوجودية والأخلاقية والعدمية وغيرها، على مدى الزمان.

وحين ظهر العلم الحديث في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحلّت معه الحقيقة النسبية القائمة على التجربة والتطبيق والاختراع، محل الحقيقة المطلقة، الدينية أو الفلسفية، برز الاعتقاد الراسخ لدى التطوريين والعلمويين بأن العلم الحديث سيجد الإجابات عن كل الأسئلة، ويوضح كل الغوامض، ويحل كل المسائل، بما فيها مسألة الحرب والسلم.

لكن جاءت الحربان العالميتان الأولى والثانية الرهيبتان لتؤكدا تماماً عكس ذلك، ومعهما أفعال هتلر وستالين وماو تسي تونغ وبول بوت وسواهم، حيث العنف الجماعي الأقصى. بحيث، يا للهول، لم يعد العلم الحديث محط آمال البشرية في تطوير الطبيعة الإنسانية نحو السلام، بل هو أيضاً السبيل إلى ابتكار الأسلحة الأكثر فتكاً، واستنباط الحروب الأكثر رعباً. إنه الشبح النووي، الماثل الآن في أفق الشرق الأوسط، وفي أفق أوروبا، وفي أمكنة أخرى من العالم.

بات العقل المعاصر، بقدر ما يتمنى التطور العلمي ليرفع من نوعية الحياة، بقدر ما يخشاه، لما يحمله من مخاطر تدميرية متعاظمة تهدد الحياة على الكرة الأرضية برمتها. كأن الخوف من التطور العلمي بات يفوق الآمال المعلقة عليه. وهذه النقطة، إن صحّت، تشكّل تحوّلاً جوهرياً لا سابق له في تاريخ السعي البشري إلى المعرفة، من «تفّاحة حواء» إلى اليوم.