تأسَّستِ الأوبامية على نسخة معاصرة من الصفقة الجديدة. مصطلح «الصفقة الجديدة» الأصلي يشير إلى مجموعة من الإجراءات الاقتصادية الاجتماعية التي تبناها الرئيس فرانكلين روزفلت من حزب الديمقراط، وكان هدفها التغلب على تأثير الركود الكبير. مدى نجاعة تلك الإجراءات اقتصادياً مبحث منفصل، لكن على صعيد الولاءات السياسية كان أثرها ضخماً. ولا سيما فيما يتعلَّق بعلاقة حزب الديمقراط بالناخبين من المجتمع الأميركي من ذوي الأصول الأفريقية.
مجتمع الأميركيين الأفارقة انحاز تقليدياً قبل «الصفقة الجديدة» إلى حزب الجمهوريين، حزب أبراهام لنكولن، الذي قاد معركة تحرير الرقيق. بينما ارتبط اسم الديمقراط، ولا سيما في الجنوب الأميركي، بسياسات الفصل العنصري. لكن هذا تغير بعد الخطوات التي اتخذها فرانكلين روزفلت، وتحول صوت الأميركيين الأفارقة نحو حزب طالما خاصموه.
استلهمَ أوباما تلك الفكرة لبناء تحالفات جديدة مع مزيد من المجموعات السياسية والثقافية، فجمعت البوتقة الأوبامية ونظيراتها في الدول الأوروبية من كلٍّ زوجين اثنين، مجتمع الميم إلى جوار الإسلام السياسي، والطبقات العاملة من المهاجرين إلى جوار ناشطي البيئة، وطبعاً هناك الناخبون التقليديون لليسار من اليهود والأقليات العرقية والجماعات النسوية وجماعات الحق في الإجهاض.
ومضت بهم سفينة نوح، تعلن أنَّ هذا هو الميلاد التقدمي الجديد للسياسة، من يركبها فقد نجا، ومن تخلف فهو من الهالكين. ونجحت هذه التوليفة الغريبة، أولاً بقوة الدفع، وثانياً بجمال السردية، التي تفوقت أحياناً على الولاء الحزبي، فرأينا كولن باول الجمهوري يبكي فرحاً في تنصيب أوباما، ورأينا المحجبات يخطبنَ في النَّسويات، ورأينا أصواتَ مسلمين محافظين، بتوجيه من قيادات الإسلام السياسي، تنتخب سياسيينَ مثليين.
إشارات العطب في هذه السفينة ظهرت مبكراً، حتى قبل أن يغيب ربانها عن البيت الأبيض. هنا في الشرق الأوسط، توترت علاقة الولايات المتحدة بحلفائها التقليديين. وهناك في أميركا وأوروبا اختار الأميركيون دونالد ترمب، واختار البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي. لم يكن هذا ليتم إلا بتمرد صامت في صفوف السفينة الأوبامية، أو بتحالف غير معلن من المتضررين الذين لم تهتم السفينة بمصيرهم. لم يلفتِ التمرد وقتَها انتباهَنا الكامل لأنَّ إعلام المينستريم لم يدركه، أو أدركه واستعلى عليه.
لكن الصدمة نفسها، صدمة ترمب و«بريكست»، أحيت إحساس ركاب السفينة بالخطر، فالتأموا ضد ترمب وضد «بريكست» حتى آخر نفس. ربما تعتقد أنهم نجحوا. ترمب من محاكمة عزل إلى محاكمة عزل، ثم خسارة لانتخابات الولاية الثانية. وقيادات «بريكست» غابت عن الساحة. لكن المتمعن يلحظ الكامن. لقد اتفقت سفينة أوباما على تعريف الخصم، لكنها فشلت في صياغة رؤية موحدة. خطتها نجحت في التقويض، وفي الإلغاء، وفي فرض رؤيتها وتصوراتها بالإعلام والدراما والشعارات الرياضية، واستنفدت في ذلك جهدها، لكنها لم تنجح في تقديم قائد بقدر ما قدمت مراكز قوى.
لو كان مظهر الرئيس بايدن في احتفال يوم الإنزال في نورماندي انعكاساً لوضع اليسار الأوبامي فقد أغناني عن الشرح، وجسَّد المحصلة الفيزيائية الصفرية للقوى داخل سفينة أوباما. كل واحدة فيها قوية في حد ذاتها، لكنها ملغية داخلياً بقوة مقابلة. المحافظون المسلمون والمسيحيون يتظاهرون احتجاجاً على مناهج تعليم من صنع رفقائهم التقدميين، وعلى توجهات ينتجها رفقاؤهم من صناع الدراما. النسويات انقسمن حول «المتحولات» جندرياً، اللاتي احتكرن كل رياضة دخلنها. اليهود والإسلام السياسي على طرفي نقيض من قضايا الشرق الأوسط. الأقليات من الملونين منزعجة من مزاحمة الهجرة غير الشرعية. العمال منزعجون من تأثير أنصار البيئة على مهنهم التقليدية. المحصلة في الصراع صفر. لا يثنيه ولا يؤجله، إلا وجود عدو مشترك. وحتى هذا مشروط بأن يختاروا لأنفسهم قيادة صفرية هي الأخرى.
الرئيس بايدن ليس صدفة، ليس اختياراً، بل اضطرارٌ. تحتاج تلك القوى المتضادة المؤدلجة إلى قائد كالعدم، واجهة زجاجية لا تحجبها. أي قائد ذي توجه محدد واضح، ورؤية ذاتية، ورغبة في القيادة، سيكون خصماً لهذا أو ذاك من ركاب السفينة. أي قائد سيحاول أن يدفع الدفة في اتجاه، سيواجه برافضين يدفعونها في الاتجاه الآخر. فإمَّا دفة بلا توجيه وإمَّا شدٌّ وجذبٌ صفري المحصلة. إن دارت اليوم في زاوية، ارتدت غداً في عكسها.
من هنا فإن الانتخابات المقبلة في الولايات المتحدة محورية. ليس لأميركا، بل للعالم. لأن العطب في سفينة أوباما عطبٌ بنيويٌّ في التركيب الأساسي. إن استمرت على حالها، وفي قيادة العالم، ستزيد التصدعات والتشققات. ستتوسع حروب روسيا، وينهار الشرق الأوسط، وتنفلت الميليشيات الإيرانية أكثر. والأخطر، أن التصدعات الثقافية والاجتماعية الراديكالية المفاجئة، التي يسميها اليسار تقدمية، ستؤدي إلى مجتمعات فقدت الثقة تماماً في حكوماتها، ولجأت إلى مواجهات اجتماعية مباشرة لتدافع عن مصالحها.