تتعدد مراكز التحالفات السياسية في السودان، ويتغير بعضها بين غمضة عين وانتباهتها، وتتفاوت مواقف هذه الكتل، كما أنها تتفاوت في حجمها وقدراتها على صنع المواقف وتشكيل المشهد السياسي في البلاد. وتبدو تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) صاحبة السبق في الحراك والفعل بدرجة لا يمكن مقارنتها بأيٍّ من الأجسام الأخرى. وبغضّ النظر عن الحكم على مواقفها، وصحتها من عدمها، فقد ثبت منذ ظهور الأجسام الأُول المكوِّنة لـ«تقدم» أنها مَن تصنع الفعل، وتدرك للآخرين رد الفعل. وردود الفعل الأخرى قد تكون نقداً لـ«تقدم»، أو هجوماً عليها، أو تقليداً لتحركاتها باتخاذ أشكال تنظيمية شبيهة بها، أو اتخاذ مواقف معاكسة لها.
كان هذا هو موقف المجموعات التي اتجهت لتعلن من القاهرة «إعلان القاهرة» قبل أسابيع قليلة، ووقَّعت عليه الكتلة الديمقراطية ومجموعات صغيرة أخرى، كما كان موقف مجموعة قوى التغيير الجذري، التي تضم الحزب الشيوعي وبعض التنظيمات الصغيرة التي تكتفي بإصدار بيانات ناقِدةً للتنسيقية، ومعارِضةً لكل ما تقدمه. ولم تسجل الفترة الماضية أي تصور أو خطوة مميزة للتحالفات الأخرى تمت من دون الرجوع لفعل أو تصور ومقترح لـ«تقدم».
من بين هذه التحركات المؤتمر التأسيسي لتنسيقية القوى المدنية الديمقراطية «تقدم» الذي عُقد طوال الأسبوع الماضي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا وسط حشد كبير فاق الستمائة مشارك من داخل وخارج السودان، مثَّلوا 18 ولاية و24 من مراكز الهجرة واللجوء خارج السودان، حسبما ذكرت وثائق المؤتمر. هذا المؤتمر جرى وصفه بأنه أكبر حشد لعمل سياسي في تاريخ السودان الحديث، وأوسع تحالف من نوعه، إذ إنه يضم إلى جانب القوى السياسية الرئيسية منظمات المجتمع المدني، والنقابات والمهنيين، ولجان المقاومة، والنساء والشباب، والفئات النوعية من مزارعين ورعاة ونازحين ولاجئين، ورجال الأعمال، والمبدعين والمثقفين وغيرهم. وتحمل كشوفات المدعوّين، التي أُتيح لي الاطلاع عليها، تمثيلاً متنوعاً وثرياً لكل هذه الفئات ومن كل ولايات السودان، وإنْ تعذَّر وصول البعض من داخل السودان بسبب الاعتقال والاحتجاز ومنع السفر ومصادرة جوازات السفر، وهي عقبات متوقعة.
وأهم جزء في هذا الأمر أن الكتل الكبيرة الممثلة للولايات ومدن اللجوء والهجرة حول العالم جرى اختيارها قاعدياً، بينما اُختير بعض الفئات مركزياً بتوافق المشاركين في اللجنة التحضيرية.
ناقش المؤتمر قضايا كثيرة واتخذ في كثير منها توصيات ومقترحات، وأرجأ بعضها لمزيد من التشاور وأخْذ رأي الخبراء، كما ذكر البيان الختامي. ووجود عضوية ممثلة في المؤتمر، بقدر ما تتيحه الإمكانات اللوجيستية، لا يلغي حق الرأي العام في مناقشة ونقد الأوراق والتوصيات، بل إنه يُلغي بمسؤولية خاصة لمن يؤيدون الخط العام والأهداف الرئيسية لـ«تقدم»، سواء كانوا في عضويتها أم لا، حتى لا تتحول التنسيقية إلى صنم يطوف حوله الناس ويبجّلونه ولا يقبلون نقداً له وفيه.
الاهتمام بالمؤتمر ومجرياته ينبع من نقطتين مهمتين وردتا في ثنايا الأجزاء السابقة من هذا المقال، ولا بأس من تلخيصهما هنا؛ أولاهما، كما ذكرت، توسع حجم المساهمة والمشاركة فيه، جغرافياً ونوعياً، والأخرى أنه جزء من حراك كبير ومتعدد الخطوات تقوم به التنسيقية منذ تكوينها الأول في المؤتمر التحضيري قبل نحو سبعة أشهر.
لن تكون تنسيقية «تقدم» المعبِّر الوحيد عن الساعين لوقف الحرب وتحقيق السلام وبناء الدولة المدنية الديمقراطية، ويجب ألا تتوهم ذلك، لكنها الآن أكبر مراكز هذا الموقف، وعليها مسؤولية مستمرة في التحاور مع بقية الأحزاب والتنظيمات المختلفة التي ترفع نفس الأهداف، وأن تمتلك المرونة للتفاعل الإيجابي مع كل المبادرات الشبيهة بما في ذلك إمكانية انضمامها إلى تحالف أوسع، وتغيير اسمها وهياكلها وطريقة عملها إن اقتضى الحال.
والأهم من كل ذلك أن تتقبل قيادة «تقدم» الانتقادات والملاحظات، وحتى الهجوم عليها، لأن هذا جزء من الاهتمام بها وبما تفعله، ولأن ذلك يمكن أن يكون جهداً وطنياً مخلصاً لا يقلل منه اختلافه مع التنسيقية وطريقة عملها. وفوق كل ذلك فإن عليها الاستعداد للاعتراف بأن هذا الجسم مكون من أحزاب ونقابات ومنظمات مجتمع مدني مثقلة بتاريخ طويل من التعثر وحتى الفشل وافتقاد المؤسسية، وعليها أن تتحمل كل هذه الإشكاليات والأوزار وتمضي في طريق طويل وصعب لكنه ضروري لإنقاذ السودان مما هو فيه من حرب وكارثة إنسانية ونزوح ولجوء، وأن تتمكن في الوقت نفسه من العمل لمعالجة العلل والإشكالات الفكرية والسياسية والتنظيمية.