توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

أصلحوا دنيانا ودعوا لنا الآخرة

استمع إلى المقالة

في خطاب إلى وزراء الإعلام العرب، حدد الدكتور محمد الرميحي أربع مهمات، ينبغي إنجازها للنهوض بقطاع الإعلام. أستطيع اختصار هذه المهمات في: اعتماد استراتيجية واضحة متناسبة مع الرؤية المستقبلية للبلد، التدريب العلمي والفني الذي يلبي التحديات الجديدة في قطاع الصحافة، المحافظة على المصداقية وتجنب المعلومات المشكوكة أو الكاذبة، وأخيراً اعتماد مبدأ حرية التعبير وتدفق المعلومات، التي تجعل الإعلام مرآةً للحياة الواقعية ومعبرةً عن جميع المشارب والتوجهات الاجتماعية. (جريدة النهار 28 مايو/ أيار).

لا أظن أحداً يجادل في أهمية النقاط الأربع، وهي - بالتأكيد - أكثر أهمية للنشاطات ذات الطبيعة الثقافية، كقطاعي الإعلام والتعليم. لكن ربما يجادل بعض الناس في تطبيقات الفكرة على واقعنا القائم. قد يرون مثلاً أن لدينا سياسة إعلامية تحدد الأهداف الكبرى، وهي استراتيجية مناسبة لظروف مجتمعنا وحاجاته. أو قد يخشون أن توسيع حرية التعبير طريق إلى الفوضى. واعتاد القائلون بهذا الرأي على ضرب المثل بما شهده لبنان من حريات صحافية واسعة، يزعمون أنها قادت إلى الحرب الأهلية (لأنهم لا يعرفون مثالاً آخر). أما نقطة المعلومات الكاذبة أو المنقوصة، فالحق معهم، فما دمت لا تسمح إلا بالقليل من المعلومات، فلا بد أن الكذب فيه قليل جداً.

هذه إذن نقاط لا يعارضها أحد من حيث المبدأ، وإنْ جادلوا في تطبيقاتها. والمجادلة الفرعية تؤكد الفكرة اكثر من دلالتها على المعارضة.

- حسناً، ماذا يعني أن تكون لدينا استراتيجية إعلامية؟

كان الرميحي قد أشار إلى ممارسات للإعلام تتعارض مع التصور العام للدولة الحديثة. منها مثلاً ترويج الثقافة الأسطورية وربما الخرافية، من خلال أشخاص أو برامج ترتدي لباس التوجيه والإرشاد، وهذا يتعارض مع تشديد الحكومة على تعزيز العقلانية واعتماد العلم في الحياة العامة والخاصة. كيف ندعو في مدارسنا إلى النقاش النقدي والعقل الناقد، بينما يروّج أعلامنا لمن يقول صراحة إنه لا يصح الرجوع لأحكام العقل في هذا الحقل الحياتي أو ذاك. وفي الوقت نفسه لا يفسح المجال للرد على تلك الأقاويل؛ لأننا سلمنا بأن تلك الأشياء اللاعقلانية تنطوي على شيء من القداسة.

وأريد الانطلاق من هذه الفكرة، أي ضرورة عدم التناقض في الخطاب الرسمي في المضمون وفي الصورة، لوضع السؤال التالي:

- هل ينبغي للدولة أن تتبنى خطاباً ثقافياً أو آيديولوجياً خاصاً، ثم تستعمل الأملاك العامة (الإعلام وجهاز التعليم مثلاً) في الترويج لذلك الخطاب؟

يبدو لي أن جواب السؤال هو إحدى نقاط التباين الكبرى بين الشرق والغرب. فالنخب الشرقية عموماً تقول إنه يحق للدولة أن تتبنى خطاباً آيديولوجياً أو ثقافياً، وتدعو الناس إلى اتباعه. بينما يذهب الرأي السائد في الغرب إلى أن تبني أي خطاب آيديولوجي يؤدي - بالضرورة - إلى إقصاء كل رأي مختلف أو مخالف للخطاب الرسمي. وهم يقولون – على سبيل التمثيل فحسب – إن الدولة مسؤولة عن دنيا الناس. أما الآخرة فهي مسؤوليتهم الشخصية، أو في أدنى التقديرات مسؤولية جهات أخرى لا تملك مصادر القوة الجبرية، مثل الكنيسة والهيئات الدينية التي يقيمها الأهالي.

إنني ممن يذهبون إلى هذا الرأي في ما يخص الدين؛ إذ لا أرى مصلحة للدين أو للدولة في فرض دينها على الناس. لكنني – بموازاة هذا – أعتقد بعمق أن على الدولة واجباً حيوياً ومحورياً، هو تجديد وتعزيز الإجماع الوطني، والدفاع عن الهوية الوطنية التي تجمع في ظلها الهويات الصغرى، في مواجهة الساعين لهيمنة الهويات الصغرى على المشهد العام أو المجتمع الوطني. إن أقوى وسيلة لتحقيق هاتين المهمتين هما الإعلام والتعليم. في ظني أنه يتوجب على أصحاب المعالي وزراء الإعلام والتعليم العرب، أن يضعوا أمامهم في كل صباح سؤالاً يوجهونه إلى العاملين في هذين القطاعين: ما الذي فعلتم لتعزيز الإجماع الوطني والوحدة الوطنية الجامعة؟