د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

هل يكفي النمو الاقتصادي؟

استمع إلى المقالة

خلال اجتماع منتدى الاقتصاد العالمي في الرياض، كان النمو الاقتصادي أحد أهم الموضوعات التي نوقشت، في وقت انخفض فيه النمو الاقتصادي العالمي عن متوسط العقد الماضي، وعلى الرغم من أن العديد من الاقتصادات لا سيما الناشئة منها سيشهد نموّاً لهذا العام، فإن البعض الآخر من الدول لا يزال يعاني جرّاء الصعوبات الاقتصادية والنزاعات الجيوسياسية. خلال هذا الاجتماع طُرح موضوعٌ يمسّ عامة الناس أكثر من الدول، وهو النمو الاقتصادي الشامل، وهو يلمس جانباً مهماً من النمو الاقتصادي، ويبحث عن إجابة لسؤال يسأله أفراد المجتمع، وهو «ما الذي سيناله الفرد عندما ينمو الاقتصاد؟».

النمو الاقتصادي الشامل هو مفهوم متعدد الأوجه يسعى إلى ضمان استفادة الجميع من التقدم الاقتصادي، ويتمثل هدفه في خلق الفرص لجميع شرائح السكان وتوزيع مكاسب الرخاء المتزايد، بشكل عادل عبر المجتمع. ويختلف هذا النهج مع النمو الاقتصادي التقليدي، الذي يركز غالباً على المقاييس الإجمالية مثل الناتج المحلي الإجمالي دون النظر في التوزيع والمساواة. وينطوي النمو الشامل على مجموعة من الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ويتطلب تنفيذ سياسات مصممة خصيصاً لضمان تحقيق فوائد واسعة النطاق.

وفيما يلتفت منهج النمو الاقتصاد التقليدي إلى مؤشرات قياس مُتعارف عليها وسهلة القياس، يبحث النمو الاقتصادي الشامل عن مستهدفات أخرى، مثل الحد من الفقر من خلال ضمان قدرة المزيد من الناس على المشاركة في الفرص الاقتصادية والاستفادة منها، وتعزيز العدالة الاقتصادية والإسهام في التماسك الاجتماعي، وضمان توزيع الفوائد الاقتصادية على نطاق واسع بما يمنع التدهور البيئي، وتجنب الآثار السلبية للدورات الاقتصادية التي عادة ما تشهد مراحل ازدهار وكساد تنجم عن التفاوت في الثروة والدخل.

ويركز النمو الاقتصادي الشامل على عدد من المكونات في السياسات الاقتصادية، ومنها إدماج القوى العاملة، وذلك لخلق فرص عمل لجميع فئات المجتمع بما في ذلك الفئات المهمشة من الأقليات وأصحاب الإعاقات، وضمان حقوق العمال وحمايتهم من العوامل الاقتصادية الداخلية والخارجية، كما يركز هذا المنهج على التعليم بشكل أساسي، وذلك بضمان حصول الجميع على تعليم جيّد يمكّن من تحقيق تكافؤ الفرص وتزويد الجميع بالمهارات اللازم للنجاح في الاقتصاد الحديث، ولا ينطبق هذا على التعليم العام فحسب، بل يمتد إلى التعليم العالي والتعليم المهني، وإلى إعادة تأهيل القوى العاملة بما يتناسب مع التغيرات التقنية المتسارعة. كما يلتفت النمو الاقتصادي الشامل إلى الرعاية الصحية التي يمكن الوصول إليها بأسعار معقولة لجميع أفراد المجتمع، ويتطلب ذلك أنظمة صحية قوية توفر خدمات من الرعاية الوقائية إلى العلاج وإعادة التأهيل، وتقليل الفوارق في النتائج الصحية بين المجموعات السكانية المختلفة، ويركز العديد من الدول على هذه النقطة بسبب عدد من الإحصائيات أكدت تفاوت معدل الأعمار بحسب معدّل الدخل، حيث أوضحت الأرقام أن أصحاب الدخل المرتفع يتمتعون بصحة أفضل وبمعدل أعمار أعلى.

ولا يغفل النمو الاقتصادي الشامل أنظمة الحماية الاجتماعية مثل الإعانات الاجتماعية وإعانات البطالة وأنظمة التقاعد وشبكات الأمان الاجتماعي التي تمنع الفئات الأشد فقراً والأكثر ضعفاً من الانزلاق إلى الفقر المدقع، ومؤخراً فقد ركز منهج النمو الاقتصادي الشامل على الشمول المالي الذي يضمن قدرة الأفراد والشركات على الوصول إلى منتجات وخدمات مالية مفيدة وبأسعار معقولة تلبي احتياجاتهم، في وقت يهمش فيه النظام المصرفي التقليدي بعض الفئات الأكثر احتياجاً.

وينطوي تنفيذ استراتيجيات النمو الشامل على تخطيط السياسات وتنفيذها من خلال تعزيز المؤسسات التي تعمل على سيادة القانون، وتطوير البنية التحتية التي تقلل من الفوارق الاقتصادية بين المجتمعات والمناطق المختلفة مثل الطرق والجسور والاتصال بالإنترنت، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل مصدراً كبيراً لخلق الوظائف، وتشجيع استخدام التقنية بما يعود بالنفع على جميع فئات المجتمع.

إن منهج النمو الاقتصادي الشامل يعزز استفادة جميع فئات المجتمع من الازدهار الاقتصادي، وهو على الرغم من صعوبة قياسه، فإنه الهدف الأسمى للنمو الاقتصادي، ويتعدى في مفاهيمه أرقام الناتج الإجمالي المحلي، وتطبيقه على أرض الواقع يواجه تحديات مختلفة، مثل ضمان الالتزام السياسي طويل المدى، الذي عادة ما يفسده تغير الحكومات والوعود الانتخابية، كما أنه يواجه تحدي التحولات الديموغرافية مثل شيخوخة السكان في البلدان المتقدمة وتضخم أعداد الشباب في المناطق النامية، إضافة إلى التغيرات التقنية المتسارعة التي قد لا تواجهها تغيرات اقتصادية سريعة. والتركيز على هذا المنهج هو أساس استدامة النمو الاقتصادي، حتى لا تتفاجأ الدول بعد سنوات من النمو المتواصل، بأنها تواجه مشكلة لا تؤثر على نموها الاقتصادي فحسب، بل على جوهر اقتصادها وتنافسيته، والدخول في دوامات يصعب الخروج منها.