خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

مستقبل «حماس» من ماضي «حزب الله»

استمع إلى المقالة

بين «حماس» و«حزب الله» تشابهات واختلافات قد تساعدنا في توقع سيناريوهات ما بعد غزة، قياساً على ما رأيناه بعد «حرب تموز».

كلتا الحركتين ميليشيا مسلحة، عدَّت نفسها خارج الالتزام الرسمي، ومعفاة من تبعاته: «حزب الله» بتجنب المشاركة الفعالة في الحكومة حتى «حرب تموز»، و«حماس» بعدم الانضواء تحت مظلة «منظمة التحرير»، الممثل الشرعي المعترف به في الأمم المتحدة. أرادت الجماعتان من ذلك حرية حركة، وروجتا أن ذلك يعفي الجانب الرسمي من تبعات تصرفاتهما.

تتشابه الحركتان أيضاً في انطلاقهما من بيئة حاضنة، دافعها ليس الدعم السياسي للقضية فقط؛ بل علاقات القربى الاجتماعية في مجتمع صغير، يعرف بعضه بعضاً بالشخص أو العائلة، ويتخذ المواقف السياسية طبقاً لتصنيف الفخر والعار، وليس الحسابات المجردة. ولكل من الحركتين ماضٍ محملٌ بالصراع المسلح مع فرقاء في محيطه السياسي.

وكلتاهما مرتبطة بإيران. من هذا التشابه يبدأ سرد الاختلافات.

علاقة «حزب الله» مع إيران عضوية، وواجب الكفالة فيها أبوي. السلاح والأكل والشرب من إيران، كما صرح حسن نصر الله يوماً. أما في حالة «حماس» فأغلب الظن أن العلاقة مصالح سياسية، لا تخلو من التعقيدات.

كما أن لبنان -على صغر مساحته- يمنح أُسر الجنوب عمقاً يستطيعون التنقل إليه، وإلى سوريا، وليس هذا متاحاً لأهل غزة. ولبنان نفسه دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة، يمكنه التحرك بهذه الصفة، على عكس غزة.

لدينا هذا الخليط من التشابهات والاختلافات لنبحث فيه عن السيناريوهات المحتملة بعد الحرب. والطريق الأسهل أن ننظر كيف تصرف «حزب الله» بعد 2006، وأن ننتقي من تلك التصرفات ما في مقدور «حماس»، وما يتجاوز قدرتها.

ولنبدأ بتحديد أفق الصراع. في حالة لبنان أعلنت إسرائيل أنها بصدد القيام بعملية عسكرية، وليست حرباً. لم يكن من أهدافها المعلنة مثلاً أن تحتل أرضاً، ولا أن تتعقب قادة «حزب الله»، ولا أن تحرر مخطوفيها العسكريين من خلال العمليات. سمح هذا لـ«حزب الله» بإعلان «النصر الإلهي»، رغم كل ما حاق بالبلد وبقواته من دمار، وكان متأكداً من قدرته على إلزام الآخرين الإذعانَ لإعلانه ذاك وإن لم يقتنعوا، وأن يتجاوز بالتالي أي محاولة لتحميله المسؤولية.

حاولت «حماس» أثناء الصراع، من خلال جهازها الإعلامي، أن تمهد الأجواء لإعلان «نصر إلهي»؛ لكن الفروق المشار إليها أدت إلى مد أمد الصراع، وارتفاع أعداد الضحايا، وانكشاف «حماس» إلى وضع أسوأ.

خرج «حزب الله» من صراع 2006 محتفظاً بجزء لا بأس به من ترسانته، والأهم أن خط الإمداد من إيران لم يتوقف.

ساعد ذلك الحزب على العمل بعد الحرب في اتجاهين، كلاهما غرضه أن يقايض ما تبقى من قوته المادية والمعنوية بزيادة نفوذه الداخلي. الاتجاه الأول كان القضاء على النخبة السياسية المعارضة، والاتجاه الثاني كان تعطيل الحكومة بما سمَّاه «الثلث الضامن». وهو عدد وزراء الحكومة القادر دستورياً على منع مجلس الوزراء اللبناني من تمرير قرارات. وأرفق ذلك بتعطيل عمل مجلس النواب اللبناني، والاعتصام حول سراي الحكومة. والنتيجة نراها الآن؛ حيث تدهور الحال في لبنان إلى وضع أسوأ من الهزيمة العسكرية.

أما «حزب الله» فقد جنى مكسباً آخر غير منظور. حربه على الفرقاء كانت تذكيراً مستمراً لحاضنته الأهلية بأنه لا يخوض حرباً ضد إسرائيل فقط؛ بل ضد خصوم محليين، وأن غرضه من ذلك الحفاظ على النفوذ. لا يحب الإعلام الخوض في ذلك كثيراً؛ إذ من الصعب العثور عليه في التصريحات الرسمية؛ لكن من موقعي مراسلاً على الأرض، كانت تلك الكلمة السحرية التي أبقت موقع «حزب الله» في الطائفة رغم ما تعرضت له من دمار.

وأخيراً، وجد «حزب الله» لنفسه وظيفة عززت أهميته لدى إيران ومحور الممانعة، وهي المشاركة في الحرب الأهلية السورية. واستخدم هذه أيضاً لكي يقول للبنانيين إنه درأ عنهم خطر الـ«دواعش». أيٌّ من هذا قريب من وضع «حماس»؟

انتفى احتمال خروج «حماس» من الصراع وهي محتفظة بقوتها، ومن الصعب أن تستعيد درجة تسليحها السابق لـ7 أكتوبر (تشرين الأول) في المستقبل المنظور. القبول الدولي بوجودها نفسه محل شك؛ حيث أظهرت من السلوك ما يضعها في خانة لا تشبه جماعات المقاومة. وهو السبب نفسه الذي سيجعل داعميها الماليين تحت مزيد من التدقيق والوصم السياسي. وبدأ هذا بالفعل.

لن يكون من مصلحة «حماس» المباشرة الإسراع إلى تحويل الأمر إلى صراع أهلي مع فرقاء سياسيين كما فعل «حزب الله». وبالنظر إلى الطبيعة الاجتماعية للشعب الفلسطيني لا أظنه يتقبل منها هذا في الوقت الحالي.

لكنني أتوقع أن تستثمر ما تبقى من قوتها في إعادة التموضع داخل المجتمع الفلسطيني. إن لم يكن باسمها الحالي، فسوف تجري عملية «ريبراندنغ» وتختار اسماً جديداً. وسيكون غرضها الرئيسي من ذلك التأكيد على استمرار أهميتها لدى رعاة إقليميين.

ليس سراً أن هناك مشاريع سلام جديدة، وأن التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية سيسهل المضي قدماً في تلك المشاريع. تريد «حماس» أن تضمن أن تكون لها كلمة لا يمكن تجاوزها. ربما تبيع التعطيل لدولة لا تريد لمشروع السلام أن يكتمل. وربما تقايض الموافقة بمكسب سياسي واقتصادي لها ولجماعتها الأم، «الإخوان المسلمين».

ينقلنا ما سبق إلى سؤال آخر تختلف الإجابة عنه حسب موقع صاحبها: أيُّ حال لـ«حماس» عند نهاية الحرب، من حيث القوة والضعف، ستكون في مصلحة الفلسطينيين؟ وأيها في مصلحة إسرائيل؟