د. ياسر عبد العزيز
TT

لهذه الأسباب... الصحافة تعاني وحريتها تتراجع

استمع إلى المقالة

كان من المفترض أن يكون يوم الجمعة الماضي، 3 مايو (أيار)، يوماً للاحتفال بحرية الصحافة عبر العالم، أو هكذا أرادت الجمعية العامة للأمم المتحدة حين أقرت هذا الاحتفال في هذا اليوم بالذات من كل عام، قبل نحو 31 عاماً.

لقد استمر هذا التقليد فعالاً بلا انقطاع منذ 3 عقود، وكان الهدف أن يكون هذا الاحتفال بمنزلة تكريس لدور الصحافة، وتذكير بضرورة الالتزام بمبادئها الأخلاقية، ودفاع عن حق الصحافيين في الاستقلالية والحماية، أثناء قيامهم بواجبهم.

لكن الرياح تأتي أحياناً بما لا تشتهيه السفن؛ فعندما حل يوم الجمعة الماضي، كانت أحزان حرية الصحافة تتزايد، وثقافة الاحتفال تتقلص، ليتحوّل الأمر إلى ما يشبه التذكير بالحجم الهائل من الضغوط والقيود، التي تتكثف ضد صناعة الصحافة وحريتها، من جانب، بموازاة التذكير بتفاقم المخاطر على حياة الصحافيين أنفسهم، حين يمارسون عملهم في البيئات الصعبة، من جانب آخر.

ولم يكن هناك ما هو أكثر دلالة - بخصوص المأزق الذي تعيش فيه الصحافة في هذه الأثناء - من التقرير الذي أصدرته منظمة «مراسلون بلا حدود»، عشية الاحتفال السنوي بهذا اليوم المُهم؛ إذ يشير التقرير إلى أن البيئة التي تعمل خلالها الصحافة «سيئة»، في ثلاثة أرباع الـ180 دولة، التي سعى إلى استطلاع مدى حرية الصحافة فيها.

وستكون الصراعات المسلحة أول الأسباب التي دعت المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة ومستقبلها إلى الإعراب عن المخاوف العميقة والقلق المتنامي، وستكون الحرب الدائرة في غزة راهناً على رأس تلك الصراعات، بكل ما تنطوي عليه من شطط وقتل وتدمير.

لقد قُتل أكثر من 95 صحافياً تحت نيران الحرب في غزة، من بينهم أكثر من 90 صحافياً فلسطينياً، وعدد كبير من هؤلاء قُتل أثناء عمله الميداني بالفعل، إضافة إلى الإجراءات التقييدية الصارمة التي اتخذتها السلطات الإسرائيلية بحق العمل الإعلامي، ومنعها الإعلاميين الأجانب من الدخول إلى غزة لأداء واجبهم، وفرضها حالةً من التعتيم على أنشطتها الخطيرة.

لم تكن غزة هي منطقة الصراع الوحيدة التي شكلت مخاطر على الصحافة والصحافيين؛ إذ يمتد الأمر إلى بيئات صراع أخرى؛ مثلما يحدث في أوكرانيا، أو السودان، وغيرهما من البلدان.

وأما الاستبداد السياسي، فما زال يؤدي دوراً بالغ الخطورة في الخصم من حرية الصحافة، وجعل ممارستها مُهمة خطرة ومُكلفة، وهو أمر يحدث في نحو 39 في المائة من البلدان، التي ترزح تحت حكم استبدادي، لا يزال يرى أن الصحافة ضارة ولا بد من حصارها وإسكات صوتها.

وللأسف الشديد، فإن بعض البلدان التي تُوصف بأنها ديمقراطية باتت تشكل خطراً بدورها على حرية الصحافة وحياة الصحافيين، وهو أمر يعود إلى ما وصفته التقارير المعنية بـ«التدهور الديمقراطي»؛ إذ تستهدف بعض الأحزاب والحركات الشعبوية المتطرفة العمل الصحافي، وتعتقد أن الممارسة الإعلامية الحرة والمُنفتحة خطرٌ على سياساتها وتوجهاتها.

ويحلّ التقدم التكنولوجي المتسارع كأحد الأسباب التي عظّمت الضغوط على حرية الصحافة ومستقبلها؛ فرغم أن هذا التقدم استطاع أن يرفد العمل الإعلامي حول العالم بالكثير من الفرص والمزايا، فإن بعض أوجهه شكلت خطورة كبيرة، خصوصاً ما يتصل منها بالدور المتصاعد لوسائل «التواصل الاجتماعي»، ومُمكنات الذكاء الاصطناعي، وأدوات «التزييف العميق»؛ وكلها تجليات انطوت على قدر متزايد من التضليل، وحفلت بالاصطناع بشكل أثّر مباشرة في صحة التقارير ودقتها، وزعزع الثقة في المنتج الصحافي، لمصلحة طوفان من الأخبار الزائفة، والصور والفيديوهات المُختلقة.

ولأن كل صورة جديدة من صور التطوّر التقني تفرز نخبة جديدة من القائمين بالاتصال، فإن المؤثّرين الجدد، الذين تعاظم تأثيرهم على أسنة رماح وسائل «التواصل الاجتماعي»، باتوا يشكلون خطراً متصاعداً على العمل الصحافي المؤسسي. إذ لا يكاد يمر يوم من دون أن يكسب المؤثرون الجدد - الذين لم يتلقوا تأهيلاً مناسباً للعمل في مجال الصحافة، ولا ينتمون إلى مؤسسات تمتلك أدوات للضبط، ووسائل لإخضاع الأداء للتقييم والمساءلة - أرضاً جديدة، ومساحات أوسع في خرائط الوعي والإدراك.

وبسبب هذا الاختلال الواضح بين الحرية والمسؤولية في الفضاء الاتصالي الراهن، يتزايد اعتماد الجمهور على منتجات مؤثّري الوسائط الجديدة، وهي وسائط أكثر قابلية للاختراق وأقل استعداداً للمحاسبة، وهو الأمر الذي يزيد الضغوط على الصحافة المؤسسية، والصحافيين المؤهلين.

ولكن رغم تعاظم تلك الضغوط وتدافع تلك الأخبار المُحزنة بخصوص حرية الصحافة، غداة الاحتفال بيومها العالمي، ما زال بوسع الصحافيين المهنيين أن يناضلوا من أجل مهنة تستحق الاستمرار، وجمهور يستحق أن يحظى بأخبار صادقة وتقارير جيدة.