خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

السعودية في مرآة «دافوس» والعكس

استمع إلى المقالة

من حظّ الدول على قمَّة اقتصادِ العالم أن تتوفَّرَ لها أدواتُ التَّحكم في الإيقاع، فكر مثلاً في تغلغل الدولار الأميركي في التداول التجاري العالمي. لكن الاقتصادات الطامحة تملك هي الأخرى مزايا قوية، أبرزها القدرة على توجيه إمكاناتها جميعاً إلى المستقبل. هذا ما يجعلنا نشعر ونحن نطلع على خططها، مثل «رؤية السعودية 2030»، بأنَّنا نقرأ قصةَ خيالٍ علمي. حيث إنَّنا، رغم اطلاعنا على أحدثِ ابتكارات العالم نظرياً، نكون مبرمجين على واقعنا المعاش، عاجزين عن تخيل تطبيقات المستقبل في حياتنا اليومية.

من هنا، كان ردّ فعلي الأول، وأنا أقرأ في ملامح المنتدى المفتوح «دافوس الرياض»، أن تساءلت: «هل أُعد الجدولُ خصيصاً على مقاس السعودية. هكذا بدا لي. وكأنَّ السعودية كتبت بنودَه لتوافق ما تطمح إليه. ثم أدركت أنَّ الوضعَ معكوس. المنتدى يناقش دورياً تأثير المستجدات العلمية على واقعنا الاقتصادي. كل الموضوع، أن قطارَ الرؤية السعودية يتلاقى مع المستجدات في محطاتها، ويستوعبها».

التغير المناخي مثلاً من المواضيع التقليدية في مناقشات «دافوس». وتوقيع اتفاقية هنا وهناك ليس بالخبر الجديد. لكن في الحالة السعودية هناك جديد. استبقت المنتدى المفتوح، الذي تستضيفه، باتفاقيتين، مع منصة «أبلينك» التابعة للمنتدى، ولكن المختصة بالابتكارات الرائدة. تركزان على تحفيز الابتكار لاقتصاد المحيطات الإيجابي، واقتصاد الكربون الدائري الإيجابي. الفكرة هنا أن تتحوَّل مكافحة التغير المناخي، من جهد وقائي، استثماراً ذا مردودٍ إيجابي. بدلاً من الاكتفاء بتقليل انبعاث الكربون، تتطوَّر إلى إعادة استخدامه كوقود، ثم إعادة تدويره إلى مادة ذاتِ قيمة، وأخيراً إبطال أثر أي بواقٍ كربونية من خلال التخضير وغيره من التقنيات النافعة في حد ذاتها. اقتصاد طامح كالسعودية مؤهل أكثر من غيره لكي يكون ملائماً لهذا، يستطيع أن يبدأه من البنى التحتية الأساسية. بينما قد لا تتوفر الفرصة نفسُها إن أردتَ إعادة تأهيل منشآت موجودة سابقاً.

تعمدت هنا أن أضرب مثلاً بموضوع تقليدي، لكي أشرح فكرتي عن الميزة التي تحملها الاقتصادات الطامحة. ما بالك بالابتكارات الحديثة فعلاً، وأهمها بالنسبة لـ«المنتدى المفتوح - دافوس الرياض» الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته وأثره. تركز مناقشات المنتدى المفتوح على تجاوز الكلام المعاد عن المخاوف من الذكاء الاصطناعي، لتصل إلى كيفية استخدامه في تأمين الخصوصية، وفي حماية البيئة، وفي حماية الأفراد في الفضاء الإلكتروني. ننسى ونحن نتحدَّث عن الذكاء الاصطناعي أنَّه قادر على أن يكون أداةً في يد الأهداف الجيدة. مرة أخرى، من حظ السعودية والاقتصادات الطامحة أن تستوعبَ هذا التغيرَ الضخمَ في البنية الإنشائية لأعمالها.

بدا اختيار السعودية لاستضافة الملتقى وكأنَّه لقاء ميسّر مسبقاً. ولينضم الملتقى إلى قائمة أخرى من الفعاليات التي تنتظرها السعودية ما بين 2030، و2034، وجميعها تعزّز مكانتَها كمركز عالمي، وتعزز فعالية النمو في القطاعات الناشئة كالتكنولوجيا والطاقة المتجددة، وتحفز السوق المحلية، وتجذب إليها الاستثمارات الأجنبية، وترسخ صورة المملكة التي تقدم نفسها نموذجاً للتحديث والتطوير في المنطقة والعالم. كل هذه أهداف لم تخفِ الرياض سعيَها إليها عبر السنوات الأخيرة، وصولاً إلى إنجاز «رؤية 2030».

كما يوفر المنتدى فرصاً هائلة لمجتمع البزنس في السعودية، الناشئ منه والراسخ، ليس أقلها اللقاء مع بعض أفضل العقول الاستثمارية في العالم، وتوسيع شبكة الاتصالات، وخلق شراكات استراتيجية مع كيانات عالمية.

ولا يخلو المنتدى في التغطية الإعلامية له من الإشارة إلى الطبيعة المميزة للسعودية، التي تجعل مثل هذا المؤتمر الجافِّ في العادة، المكدسِ بنقاشات رقمية وتكنولوجية واقتصادية، ملوناً كأنَّه لقطات من كتاب كوميكس، على الأقل بالنسبة لعين غربية.

أحرزت السعودية في كل فعالية استضافتها عبر السنوات الأخيرة مجموعة من المكاسب الجانبية التي لم تكن أوسع الحملات الإعلانية لتحققها. ونجحت في غرس اسم المملكة في الجمل الإيجابية. وجاء المنتدى المفتوح «دافوس الرياض» ليكون مرآة تعكس هذه الروح الجديدة في السعودية، ودورها الطموح في رسم السياسات في المنطقة والعالم. ولا أشك أنَّ المملكة ستجني فوائد طويلة الأمد ومستدامة ومتجددة من خلال خطواتها المحسوبة، واسعة الأفق، بين الرياضة والفنون والمشاركة السياسية الفعّالة، والخطط الاستثمارية الجريئة. وكل تطور للمملكة بثقلها المعنوي والاقتصادي خبر جيد للمنطقة والعالم.