نتذكر الفضيحة التي وقعت منذ أزيد من ست سنوات في فرنسا والتي كان بطلها مرشح اليمين الفرنسي للانتخابات الرئاسية فرنسوا فيون الذي واجه ولا يزال قضية وظائف وهمية مفترضة لزوجته... وكانت أسبوعية «لوكانار أنشينيه» الفرنسية، أفادت في أحد إصداراتها، بأن زوجة مرشح اليمين للانتخابات الرئاسية في فرنسا فرنسوا فيون، المتهمة بالاستفادة من وظائف وهمية، تقاضت ما مجموعه أكثر من 900 ألف يورو، في إطار العمل كـ«مساعدة برلمانية» أو متعاونة مع مجلة ثقافية. وبعدما كانت الصحيفة أوردت مبلغ «500 ألف يورو»، نقلت فيما بعد أن المبلغ الإجمالي الذي تقاضته بينيلوب فيون لقاء عملها كمساعدة برلمانية لزوجها، أو للمنتدب عنه مارك جولو، بلغ 831440 يورو خلال الفترة ما بين 1988 و1990 وما بين 1998 و2007، ثم خلال عامَي 2012 و2013، كما تقاضت زوجة فيون نحو 100 ألف يورو لقاء عمل في مجلة «ريفو دي دو موند» خلال عامَي 2012 و2013... هاته الفضيحة المدوية زلزلت أكثر فأكثر الثقة القليلة عند المواطنين الفرنسيين، فهناك تذمر من العمل السياسي بأسره، وهناك مفاجآت الواحدة تلو الأخرى.
وهذا الأسبوع، أيدت محكمة التمييز في فرنسا نهائياً إدانة رئيس الوزراء السابق فرنسوا فيون في قضية «الوظائف الوهمية» الممنوحة لزوجته. وحكمت محكمة الاستئناف عليه في 9 مايو (أيار) 2022 بالسجن أربع سنوات بينها سنة مع النفاذ، وبدفع غرامة قدرها 375 ألف يورو، مع منعه من الترشح لمدة عشر سنوات. وعلى ضوء الحكم الجديد، تعقد جلسة جديدة خلال الأشهر المقبلة أمام محكمة الاستئناف في باريس للنظر مجدداً في العقوبات الصادرة بحق رئيس الوزراء السابق.
لما ظهرت فضيحة الوظائف الوهمية وكانت فرنسا في تلك الفترة تعيش في ظل انتخابات رئاسية، أجمع الخبراء والمحللون أن الطريق إلى قصر الإليزيه محفوف بالمفاجآت والمخاطر، وأضحى يخلف وراءه ضحايا من السياسيين الكبار؛ فالرئيس الفرنسي المنتهية ولايته آنذاك فرنسوا هولاند قرر عدم ترشحه للانتخابات، وأزالت الانتخابات التمهيدية اليسارية المرشح اليساري فالس الذي كان رئيساً للحكومة، كما أزالت الانتخابات اليمينية التمهيدية كلاً من نيكـولا ساركـوزي الــذي اعتـزل السيـاسة وعرف هو أيضاً مشاكل شتى مع القضاء، كما أزالت ألان جُـوبي الذي كانت تعطيه استطلاعات الرأي الرتبة الأولى... وها هي الأقــدار جعلت المرشح فـيُـون يشرب من الماء الآسن لكـأس ألان جوبـي نفسه عنـدما أثـيرت أثـنـاء تـمهيـديـات نــوفمبـر (تشرين الثاني) 2016 قـضية الـتوظيف الــوهمي في بـلـديـة بـاريـس التي كـان بطلهـا ألان جوبـي في تسعينات القرن الماضي!
الدولة العميقة الفرنسية تعرف دائماً التصرفات اللاقانونية واللاأخلاقية بل واللاشرعية لفاعليها السياسيين الكبار عندما يقومون باختلاسات ذكية أو بتهربات ضريبية أو بمناورات لإرضاء أتباعهم أو زوجاتهم أو أولادهم... قد يبقى السر مدفوناً لسنوات، بل لعقود في سجلات بعض مؤسسات الدولة العميقة إلى أن تأتي الفرصة السانحة ليعلن عن المستور ويقضى على الإنسان وأهله، تماماً كما وقع لهيلاري كلينتون في الولايات المتحدة، إلا أن حالتها كانت أخطر وأخطر؛ لأن الدولة العميقة الأميركية خرقتها بعض من الأدمغة المخابراتية الروسية. ومنذ أيام أعلن بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء في إسبانيا، في رسالة نشرها على منصة «إكس»، أنه «يفكر» في إمكانية تقديم استقالته بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجته بتهمة استغلال النفوذ والفساد. وقال حرفياً: «أحتاج إلى التوقف والتفكير» لاتخاذ قرار «بشأن ما إذا كنت سأستمر في منصب رئيس الحكومة أو إذا كان عليّ أن أتخلى عن هذا الشرف»، وفُتح هذا التحقيق الأولي ضد بيغونيا غوميز بعد شكوى من جمعية «مانوس ليمبياس» (الأيادي النظيفة)، وهي مجموعة تعتبر قريبة من اليمين المتطرف.
فرنسا ليست في المسار الصحيح. هذا هو الانطباع السائد منذ سنوات في الصالونات الفكرية وفي التقارير المؤسساتية الفرنسية البارزة. فالدولة تعاني أزمة ثقة بين المواطن والدولة، ونتذكر أحد الأعداد لمجلة «لوبوان» (Le Point) الفرنسية؛ إذ عنونت مجلتها: «كيف تولد الثورات؟ هل نحن في سنة 1789؟». وكما هو معلوم فالثورة الفرنسية اندلعت عام 1789 في مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية أثرت بشكل بالغ على فرنسا وعلى كل الدول الأوروبية؛ انهار خلالها النظام الملكي المطلق الذي كان قد حكم فرنسا لعدة قرون في غضون ثلاث سنوات. وخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء الامتيازات الإقطاعية والأرستقراطية والدينية، وبروز الجماعات السياسيّة اليساريّة الراديكالية، إلى جانب بروز دور عموم الجماهير وفلاحي الريف في تحديد مصير المجتمع. كما تم خلالها رفع ما عرف باسم مبادئ التنوير، وهي المساواة في الحقوق والمواطنة والحرية ومحو الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرمي والطبقة الأرستقراطية والسلطتين الملكية والدينية.
الدولة في تلك الفترة كاليوم عاشت مرحلة من انعدام الثقة، وفي تلك كانت الدولة تحت رحمة المستفيدين من اقتصاد الريع الذين يطعمون خزينة الدولة، أما اليوم فالدولة تخضع سياسياً للفرنسيين الذين تقوم بتمويلهم... وحسب العديد من الاستراتيجيين، فكل الفاعلين السياسيين ليسوا في الحركية السياسية الصحيحة، وهم غارقون جميعهم في مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس مما يترك الباب مفتوحاً لوصول الفاعلين اليمينيين المتطرفين إلى الحكم... فقبل شهر ونصف من الانتخابات الأوروبية يبدو حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة رئيس لائحته الشاب جوردان بارديلا (28 عاماً) في طريقه لتحقيق فوز كبير. فحتى الآن، تصدر الحزب كل استطلاعات الرأي المتعلقة بنيات التصويت.
الملك لويس السادس عشر كان قد خلق نظاماً قوياً شمولياً إقطاعياً. ونفس الشيء يقال عن الجمهورية الخامسة الفرنسية من طرف دو غول (De Gaulle): الدولة القوية له... والمصيبة هو أنه عندما تخلق دولة قوية ويحكمها أناس ضعفاء أو لا شرعية لهم. فهنا المصيبة.