ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

سيّد المتاهة

استمع إلى المقالة

صديقي خاكوبو برغاريتشيه مهذّب، دمث الخلق ولطيف المعشر، إلى أن تناقشه في بعض الأمور التي تكشف شخصيته الحقيقية. خطر له مـؤخراً أن يسافر إلى الولايات المتحدة، لكنه لم يذهب إلى نيويورك أو لوس أنجليس مثل الناس العاديين، بل إلى تكساس. ما الذي دفعه إلى زيارة هذه الولاية الغنيّة بالنفط والكاوبوي؟ في ظنّي أن ما جذبه إلى هناك هو أسلوب الحياة الصاخب في تلك الولاية، ومرابع اللهو وأفضل مطاعم الهامبرغر في العالم. وبما أنه كان في حاجة إلى مصدر رزق، فتح متجراً دام أربع سنوات كان يتردد خلالها باستمرار على مركز هاري رانسوم الذي يضمّ 43 مليون وثيقة من روائع المخطوطات الأدبية التي اكتشف بينها رسائل الحب التي كتبها وليام فولكنر إلى عشيقته ميتا كاربنتر خلال إقامته في هوليوود، حيث كان منصرفاً إلى كتابة السيناريوهات السينمائية.

من تلك الإقامة في تكساس جمع برغاريتشيه مواد كتابه «الأيام الكاملة» الذي قرأته بمتعة كبيرة لما فيه من أخبار مسلّية وتحليلات ثاقبة، وجريئة، يسردها بأسلوب في منتهى الإتقان. خاكوبو من الذين يعتقدون فعلاً أن مظهر الإنسان هو مرآة لجوهره، وهو من أشدّ المعجبين بفولكنر ومتاهاته، وقصة حبه واستحضاره ذلك «اليوم الكامل»، حيث يرسم لنا في تلك الرسائل مغامرة صاحب «النخيل المتوحش» و«راتب الجنود»، وغيرهما من الروائع الأدبية التي نعرفها. وفي كتابه الذي تدور أحداثه في أوستين يتحفنا برغاريتشيه أيضاً بمجموعة من الرسوم المستوحاة من تلك التي كان فولكنر يرسلها إلى عشيقته، لكنها أفضل منها بكثير لأن فولكنر، الذي كان كاتباً عبقرياً، لم يكن موهوباً في الرسم. هذا كان الأول بين الكتب الثلاثة التي قرأتها هذا الشهر حول وليام فولكنر.

الكتاب الثاني بعنوان «ليون في الحديقة» ويضمّ المقابلات التي أجراها فولكنر من عام 1926 إلى عام 1962 وجمعها جيمس مريويزير ومايكل ميلغيت، ونشرها خافيير ماريّاس ضمن مجموعته الشهيرة «مملكة الدائرة»، التي تعدّ من نفائس النشر الأدبي النادر. هذا الكتاب يحوي كل ما كان نقيضاً لفولكنر الذي كان يكره الصحافيين ويكذب عليهم بوقاحة لا حدود لها، كمثل قوله مرة إنه ولد في عام 1826 من امرأة زنجية وتمساح كان اسمهما «روك وغلاديس». وفي أحيان كان يدلي بتصريحات غريبة مثل قوله مرة إن حل مشكلة العنصرية المناهضة للسود في الولايات المتحدة يكمن في استعادة نظام العبودية. ويذكّر خافيير ماريّاس في توطئته للكتاب تحت عنوان «ما لم يكتبه فولكنر»، بأن الذكرى المئوية لمولد هذا الروائي الفذّ كانت في عام 1997 ومرّت من غير أن يتوقف أحد عندها.

ويتضمّن الكتاب أيضاً المقابلة الأكثر جدية بين التي أجراها فولكنر، ونشرتها «باريس ريفيو» عام 1956، مع الصحافي والكاتب جان شتاين فاندين هوفيل، حيث خلافاً لعادته، بذل جهداً ليقول الحقيقة حول عمله ككاتب، في نص نادر ورائع تزيد المتعة كلما أعدنا قراءته. وفي المقلب الآخر من الكتاب نجد الأحاديث الطويلة التي أجراها في مدينة «ناغانو» اليابانية عام 1955 مع الأساتذة والنقّاد الأدبيين الذين كانوا يسألونه عن آرائه في ثقافة اليابان وطبيعتها. ونتبيّن من أجوبته مدى الحرج الذي كان يشعر به وهو يحاول في إجاباته أن يكون مستوى الأسئلة التي تطرح عليه، بعيداً كل البعد عن طبيعته، ومحاولاً جهده أن يجيب بما ينتظره منه الجمهور حتى وإذا كان مضطراً إلى قول ما هو ضد معتقده وتفكيره. ولعلّ أحرج اللحظات التي مرّ بها آنذاك، هي تلك التي كان يحاول فيها الإجابة عن الأسئلة التي تطرح عليه حول رواية «الدب»، وهي قصة طويلة يروي فيها كيف أن الشخصية الرئيسية راحت تلحق بركب التقدم التكنولوجي والآلات في الحواضر، وتدمّر الغابات والطبيعة التي اعتاد أن يعيش فيها. ولا عجب أن فولكنر كان يكره المقابلات الصحافية، ونادراً ما كان يلبّي الدعوات إلى الخارج.

أما الكتاب الثالث الذي قرأته هذه الأيام حول فولكنر، فهو ثالث ترجمة إلى الإسبانية لرواية «آبسالون آبسالون!»، وهي من أفضل الروايات التي كتبها، وأصعبها. ويصيب المترجم برناردو سانتانو مورينو بإضافاته إلى متن الرواية مثل مقدمة طويلة، إلى جانب موجز للكتاب وبيبلوغرافيا مسهبة مع خريطة لمقاطعة يوكناباتاوفا مرسومة بقلم الكاتب. أحسن المترجم صنيعاً في كل ما هو على صلة مع الأشكال النمطية والوظيفية للنص، وفي الحوارات، ولكن ليس في الصفحات التي تنأى فيها الرواية عن تلك الأشكال وتستكشف، أو تبتكر طريقة جديدة لحديث المزارعين والزنوج في تلك المنطقة التي تدور فيها الأحداث من ولاية ميسيسيبي. ولا أقول ذلك من باب اللوم؛ إذ أعتقد من المستحيل ترجمة تلك النصوص من غير الوقوع في التبسيط أو فراغ المعنى، وأن تلك الصفحات، والفقرات أو الجمل الشاردة، عصيّة كلياً عن الترجمة، كما يحصل غالباً مع الشعر، حيث مهما بلغ شأو المترجمين وفطنتهم، يعجزون عن إيجاد المفردات أو الأفكار الموازية للأصل؛ فهي لها وقع مختلف باللغات الأخرى، وفي بعضها لا وقع لها على الإطلاق. الروايات عادةً قابلة كلها للترجمة إلى لغات أخرى، وفي الغالب بمهارة وإتقان. لكن من الكتّاب القلائل الذين يشذّون عن هذه القاعدة جيمس جويس الذي ابتكر في رائعته «أوليسس» جميع العناصر التي قامت عليها الرواية الحديثة، بدءاً بالمونولوغ الداخلي وصولاً إلى أسلوبه الثوري في التعاطي مع الأزمنة أو التحولات المتكررة في شخصية الراوي. كل هذه التكنولوجيا الروائية استخدمها فولكنر متفوقاً على مبتكرها، في روايات مثل «الصخب والعنف» أو «آبسالون آبسالون!». إن في هذين النصّين من التداخل والانسياب الزئبقي ما يقتضي جهداً هائلاً من القارئ لفك ما فيهما من طلاسم ترسم وقائع في ظروف استثنائية تتصارع فيها الشخصيات بضراوة غير معهودة وتلجأ إلى القتل أو الانتحار أو هتك المحارم، لكن يستحيل استيعاب الرواية من دونها. وليس مستغرباً أن فولكنر كان يعجز دائماً عن شرحها؛ لأنه لم يكن قادراً على ترجمتها إلى لغة تقليدية، طبيعية ومن غير تعقيدات. ومثلها بعض أشعار ت.إس. إليوت أو فايّخو التي كانت عصيّة هي أيضاً على الترجمة. وكان فولكنر من القلة النادرة بين الروائيين التي بلغت هذه المرتبة؛ ولذلك سنستمر في قراءة «سيّد المتاهة» بينما تتملكنا الدهشة والحيرة حتى اللحظة الأخيرة.