كان المُبرمج الشهير آذا راسكين هو من اخترع خاصية «التصفح اللانهائي» (Infinite Scrolling)، في عام 2006، وهي خاصية سُميت لاحقاً «بارود الإنترنت»، لأنها ببساطة أشعلت حالة التصفح لدى مليارات من مستخدمي الشبكة، وجعلت من الصعب على قطاعات منهم مغادرتها، لأوقات طويلة.
وعلى ما يبدو، فإن راسكين أدرك، في وقت ما لاحقاً، أن ما فعله لم يكن أمراً صائباً، وأنه قاد مئات الملايين من مستخدمي «الإنترنت» إلى الوقوع في براثن حالة مرضية، رغم أن نواياه، كما أكد مراراً، كانت طيبة؛ إذ أراد أن يجعل عملية التصفح سهلة وبلا عوائق، لكن الإفراط في هذه السهولة قاد كثيرين إلى الإدمان.
نعم الإدمان؛ فهذا هو المصطلح الذي استخدمته منظمات صحية دولية ووطنية متخصصة عديدة، حينما سعت إلى توصيف الحالة التي يقع فيها بعض مستخدمي الإنترنت، عندما يفرطون في ذلك الاستخدام.
ولهذا السبب احتاج راسكين إلى أن يقدم اعتذاراً عن اختراعه المؤثر، بعدما أدرك أنه ربما أسهم في تسهيل وقوع مليارات من مستخدمي الشبكة فريسة لهذا المرض الجديد، حيث رصدت منظمات صحية معنية أن «التصفح اللانهائي» أسهم في تعزيز الإصابة بالإدمان بنسبة تقارب 60 في المائة لدى المستخدمين.
وسيمكن فهم موقفه هذا في ضوء اعتماد الجمعية الأميركية للطب النفسي «الإدمان على الإنترنت» ضمن عناصر الإدمان الأخرى، وأن تعرّفه بوصفه «اضطراباً يُظهر حاجة سيكولوجية قسرية نتيجة عدم الإشباع من استخدام الإنترنت»، وتوضح أن المصاب بهذا الاضطراب يعاني أعراضاً عدة، تتشابه في خصائصها، وعلاماتها الإكلينيكية، وآثارها النفسية، مع حالات الإدمان التي تسببها المواد الأخرى المُتعارف عليها في هذا الإطار؛ مثل المُخدرات والكحول.
بالطبع ليست هذه دعوى لتلطيخ سمعة الإنترنت، أو محاولة الانتقاص من المزايا الهائلة وغير المسبوقة التي منحتها للبشرية، كما أنها ليست محاولة للنيل من «الشبكات الاجتماعية الرائجة»، التي ما زالت ترفد الإنسانية والفضاء الاتصالي بكثير من الفوائد القيمة، ولكنها محاولة لتسليط الضوء على قضية الإفراط في استخدام تلك «المزايا والفوائد»، بعدما بات من المُسلم به أن ذلك الإفراط يقود إلى الوقوع في الإدمان والاضطرابات النفسية.
ففي واحدة من أحدث الدراسات المتخصصة، التي سعت إلى توضيح أبعاد تلك القضية، أعادت دراسة ألمانية التأكيد على دقة استخلاصات علمية عديدة، تشير إلى وجود رابط بين الشعور بالإجهاد والتوتر والميل للتعاسة من جانب، والإفراط في استخدام وسائل «التواصل الاجتماعي»، من جانب آخر.
لكن الجديد في هذه الدراسة، التي نُشرت بدورية «تيليميتكس آنذ إنفورماتيكس ريبورتس» العلمية، أنها اعتمدت على عينة واسعة من مستخدمي تلك الوسائل بلغت 1230 مبحوثاً، وأنها اهتمت بتحليل أسباب المشاعر السلبية التي تنتاب المستخدمين بطريقة علمية.
وفي ثنايا تلك الدراسة، سنجد تركيزاً واضحاً على عامل أساسي يُنظر إليه بوصفه مسؤولاً بصورة مباشرة عن تصدير تلك المشاعر السلبية؛ وهو عامل الارتباط المرضي ذي المنحى «الإدماني» بتلك المواقع، عبر البقاء طويلاً في تصفحها، تحت وهم الخوف من إمكانية «افتقاد المعرفة بأشياء مُهمة».
ولعل ذلك يفسر ما أصبحنا نطالعه كثيراً في تقارير المنظمات المعنية بعلاج الإدمان، في دول عديدة، عندما تشير بوضوح إلى وجود زيادة مطردة في عدد الأشخاص الذين يطلبون المساعدة من وقوعهم في براثن إدمان مواقع «التواصل الاجتماعي».
وبموازاة ذلك، فإن إحدى الدراسات الطبية المهمة، التي أجرتها جامعة نيويورك أخيراً، توصلت إلى أن الإفراط في استخدام تلك المواقع قد يسبب عدم توازن بين النظامين المعرفي والسلوكي في المخ، وهو أمر خطير للغاية حذر منه الباحثون.
فهل يمكن أن تتغافل الحكومات والمشرعون والمنظمات الدولية المعنية عن تلك المخاطر كلها، بل وأن تسمح أيضاً لبعض مشغلي مواقع «التواصل الاجتماعي» بتعزيز الميل إلى الإفراط في التصفح والمشاهدة، عبر منح المستخدمين هدايا عينية أو مبالغ مالية؟
يبدو أن المفوضية الأوروبية أجابت عن هذا السؤال، في الأسبوع الماضي، حين طلبت من موقع «تيك توك» تقديم توضيحات عاجلة حول المخاطر المرتبطة بتطبيقه الجديد «تيك توك لايت»، الذي أعلن سياسة تحفيز للمستخدمين، عبر منحهم قطعاً نقدية افتراضية، يمكنهم إبدال بطاقات لشراء الهدايا بها، ما عُد تحفيزاً للسلوك الإدماني، خصوصاً لدى الشباب.
لقد أدى الربط بين بث «المحتوى»، غير الخاضع لأي تقييم، والحصول على المال، في «السوشيال ميديا»، لعواقب وخيمة، وسيكون للتساهل مع فكرة الدفع مقابل البقاء طويلاً أمام الشاشات، عواقب أوخم.