ضعف أميركا - سياسياً لا عسكرياً - يشعل المنطقة، فإسرائيل لا تنصت للضعفاء، وإيران بين مطرقة صورتها المؤدلجة التي تثوّر بها الشعوب وبين سندان الخوف من فقدان الدلال الأميركي الذي تمتعت به عقوداً من الزمن، والدول العربية مستهدفةٌ بكل ما يجري شعوباً وحكوماتٍ ومجتمعاتٍ ودولاً، وأصابع إيران لا تعبث مع إسرائيل، بل مع العرب بمباركةٍ غربيةٍ كاملةٍ.
الجديد في المنطقة هو النهضة السعودية القائمة على أسسٍ حديثةٍ ومعايير عالميةٍ ورؤية واضحةٍ للمستقبل والاتكاء على هويةٍ راسخةٍ وعميقةٍ ومتجذرةٍ، وهي قائدة محور الاعتدال العربي لسنواتٍ طويلةٍ في مواجهة المحورين المعاديين للعرب، المحور الطائفي والمحور الأصولي، ومن طبيعة الأشياء ومنطق التاريخ أن التغيرات والتطورات كما تطول الأفراد والدول فهي تطول المحاور والاستراتيجيات.
قصة المحاور الثلاثة في منطقتنا مهمةٌ وبالغة التأثير، فمحور الاعتدال العربي انتصر على المحور الأصولي الذي ضعف على مستويين: الدولة الراعية له تم تطويعها اقتصادياً وبالتالي تحييدها سياسياً، والجماعات الأصولية في الدول العربية صنّفت إرهابيةً فاهتزّ المشهد وتحركت هذه الجماعات باتجاهاتٍ ثلاثةٍ: البعض نقل البندقية بالكامل إلى المحور الطائفي الذي ما زال باقياً، والبعض لجأ لرعاية دولة عربيةٍ غنيةٍ تفتش عن دورٍ فترعاه قريباً بوضوحٍ أم بعيداً من وراء ستارٍ، والأكثر عاد لنظريات «فقه الاستضعاف» والمرحلة «المكية» بدل «المدنية» و«الكمون» بدل «التمكين»، وتوظيف الخبرة التي تتقنها هذه الجماعات جيداً عبر التغلغل في الدول ومؤسساتها الفاعلة والعمل على التأثير طويل الأمد ولكن أكيد المفعول.
إيران أكبر الخاسرين من سعودية قويةٍ ومحور اعتدالٍ يعيد بناء معايير القوة والنجاح في المنطقة، ويصنع نهضةً تنمويةً تمثل نموذجاً مغرياً حتى لأتباعها ويقرن ذلك بقوة الاقتصاد والسياسة والثقافة والتحالفات الدولية، ويمثل تهديداً وجودياً لكل مشروعها من أساسه، فكان لا بد أن يتحرك ويعيد إشعال حرائق المنطقة، وإسرائيل ليست سعيدةً بسعودية قويةٍ ومؤثرةٍ وقادرة بواقعيةٍ وعقلانيةٍ وتأثير إقليميٍ ودوليٍ على المساومة والتفاوض من مركز قوةٍ قادرٍ على إحراج إسرائيل دولياً ووضع خياراتٍ أمامها وعواقب لتلك الخيارات.
إسرائيل تعرف إيران أكثر من أميركا، وهي تعلم جيداً كيف استخدمت أميركا، إيران، لتهديد الدول العربية وجعلها تحت ضغوطٍ دائمةٍ وبخاصة الخليجية الغنية منها، وكيف سمحت لها بالتمدد والنفوذ في أربع دولٍ منها، وإسرائيل لا تقبل أن تصل لنفس الأوضاع تحت أي ذريعةٍ، ولهذا فضرب إسرائيل لإيران وذيولها في المنطقة هو تأديبٌ لإيران وضغط على أميركا لتغير نظرتها لدور إيران في المنطقة وتخفيف نسبة الدلال الأميركي لإيران.
في حدثٍ خطيرٍ تجلى عن مسرحيةٍ هزليةٍ أعلنت إيران أنها أرسلت مئات المسيّرات والصواريخ على إسرائيل، وضج جمهور محور المقاومة بالحدث التاريخي وطار المرتزقة الجدد والقدماء كل مطيرٍ، ووظفوا خزائنهم من المصطلحات والمفاهيم الحديثة وخبطوا خبط عشواء في التوصيف والتحليل، وأمعنوا في التيه والتزييف حتى بزّوا أشعب في الطمع وباقل في الفهاهة.
تمخّض الجبل فولد فأراً، كما تقول العرب، فإذا بإيران قد أبلغت أميركا بكل تفاصيل الحدث وأبلغت تركيا وحرصت على أن تصل الرسالة واضحة لإسرائيل، وأنها قد ضمنت ألا تتضرر إسرائيل من الهجوم ولو بأدنى ضرر، وأرسلت مسيّراتٍ يصورها أطفال جمهور المقاومة من تحت نخيل العراق وتعلق في أسلاك الكهرباء مثل طائرات الأطفال، ومع هذا فلم تصمت إسرائيل، بل ضربت ضربة لا هزل فيها قاعدة عسكرية في أصفهان ودمرت دفاعاتٍ جويةً وخلفت خسائر لم تعلن عنها إيران كعادتها.
الحرب كريهةٌ ولا أحد ينشدها ويرغب بها، وهي أكبر معيقٍ لتنمية الدول ورقيها، ومروّجوها هم المتضررون من التنمية والنجاح والإنجازات لدول المنطقة، ولكننا أمام لحظةٍ كاشفةٍ سياسياً وثقافياً ودينياً وإعلامياً، يفترض أن تضع النقاط على الحروف، وتضع كل دولة وتيارٍ وإنسانٍ أمام نفسه وأمام العالم في مكانه الصحيح، والواجب هو تسليط الأضواء على هذه اللحظة الكاشفة توصيفاً وتحليلاً، قراءةً ونقداً، وتسمية الأشياء بمسمياتها، لمراكمة الوعي وتحصين الأجيال ونشر المعرفة الصحيحة.
لعقودٍ من الزمن ظلّ محور المقاومة يروّج آيديولوجيته المتطرفة طائفياً وأصولياً وسياسياً، بمبادئ وشعاراتٍ ومفاهيم وعنترياتٍ تحت شعار «القضية الفلسطينية» وتحت شعار «معاداة إسرائيل» وأميركا «الشيطان الأكبر»، وفي هذه اللحظة الكاشفة تبين بما لا يدع مجالاً للشك حجم التنسيق الواسع والكبير مع أميركا، وحجم الجهد المبذول لضمان عدم إلحاق أذى حقيقي بإسرائيل، ولجم «حزب الله» اللبناني لجماً قوياً عن أي ردة فعلٍ أو نصرةٍ لغزة التي أحرقتها «حماس» وأحرقت شعبها لإرضاء إيران وإشباع جموحها وتلبية طموحاتها في التوسع وبسط النفوذ ضد الدول والشعوب العربية.
في العلوم كلها ثوابت ومتغيرات، أسس وفروع، متونٌ وهوامش، وفي العلوم السياسية والعسكرية لا يمكن بأي مقياسٍ وتحت أي معيارٍ تسمية الهجوم الإيراني على إسرائيل حرباً أو هجوماً عسكرياً، هو حدثٌ تجلّى عن محاولة لحفظ ماء الوجه لا أقل ولا أكثر، لضمان إبقاء الأتباع تحت السيطرة والحفاظ على تسويق الآيديولوجيا واستمرار العملاء خدماً للطموحات الإمبراطورية التوسعية.
المشروع الإيراني معروفٌ ومعلنٌ منذ أربعة عقودٍ وهو قائمٌ على آيديولوجيا طائفية وطموحات إمبراطورية توسعية تحت مبدأ «تصدير الثورة» الذي سعى لتطبيقه المرشد الأول للجمهورية عبر الحرب المباشرة مع العراق وفشل، ثم سعى المرشد الثاني لتطبيقه عبر خلق «محور المقاومة» وبناء الميليشيات ودعم «الجماعات الأصولية» السنيّة مثل «جماعة الإخوان المسلمين» ومساعدة «التنظيمات الإرهابية» مثل «تنظيم القاعدة» ورفع «القضية الفلسطينية» شعاراً براقاً ثم إحراقها وإحراق شعبها خدمةً لمصالح محور المقاومة.
بعد هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في غزة بقرار من قادة «حماس» وتوجيه من محور المقاومة، أحرقت إسرائيل الأخضر واليابس في غزة، وخسرت كثيراً من التعاطف الدولي معها حتى من أقرب حلفائها، وكانت بحاجةٍ قبل الهجوم على رفح لتجديد إقناع العالم بتعرضها للخطر الوجودي، فكانت إيران على الموعد، وكانت نتيجة ما سمته هجوماً على إسرائيل لم يلحق بها أي أذى ولو صغيراً أنه أقنع العالم بالحجج والدعاية الإسرائيلية، ومهد لها الطريق لاقتحام رفح بوحشية أكبر.
أخيراً، ففي منطقةٍ تختزن أعمق الصراعات الهوياتية وتدمن الاضطرابات، فمسيرة التقدم والرقي والنهوض محكومةٌ بتفكيك ذلك كله بواقعية صلبة وعقلانية متماسكة.