بعد أن نجح علماء الإدارة في استخدام العلوم الرقمية ومفاهيم جديدة، مثل «أفضل طريقة لأداء العمل»، اكتشفوا أنهم انشغلوا في الآلات والأدوات، ولم يُعطَ الإنسان حقه. فالفرد هو محور العملية الإدارية. فبدأ الالتفات إلى بواكير الأبحاث منذ مطلع القرن العشرين، فتراكمت لتكوّن علم السلوك التنظيمي (OB).
باختصار: صار في مقدور العلماء دراسة تصرفات الموظفين ومواقفهم في المنظمات تجاه مشكلة معينة تعترضهم. ولا يمكن فعل ذلك من دون الاستعانة بمبادئ علم النفس والأدوات العلمية. ولهذا صارت كبريات الشركات والمصانع الأول في التاريخ ترحب بالباحثين للقيام بالملاحظة المنهجية، وتوزيع الاستبانات، وفهم الشخصيات وتنوعها. كما توصلوا أيضاً إلى أن سلوكيات العاملين تتغير في كثير من الأحيان، حسب الموقف الذي يعترضهم، وليست بحفنة الأموال التي تقدم لهم، والأمر نفسه يحدث مع القياديين.
وشيئاً فشيئاً صار يتضح أن السلوك التنظيمي للأفراد يتأثر بالثقافة المؤسسية السائدة. فهناك بيئات تشجع على الابتكار وتطوير الحس الابتكاري، وأخرى يوأد فيها ما تبقى من حماسة العطاء. فمهما كانت حداثة المعدات والأدوات فإنها لا تغني عن سلوك الأفراد. فعندما يشعرون بأنهم في بيئة طاردة، أو لا تقدر تفانيهم، تذبل شيئاً فشيئاً مبادراتهم وجهودهم، ويرتفع معدل ترك العمل. وهو مؤشر -إذا ما ارتفع- يعطي مؤشراً على غياب الأجواء الصحية والمحفزة على العطاء.
الأبحاث أيضاً وضعت أمام المسؤولين حلولاً علمية على تشخيص الدوافع الكامنة وراء سلوك العاملين، ومكَّنت المسؤولين من المقدرة على توجيه السلوك على النحو الذي يخدم مصالح المنظمة. وكان لهذا كله دور جوهري في النجاح بعملية التغيير -التي كثيراً ما تواجه معارضة شديدة من العاملين- الأمر الذي سهَّل عمليات الاندماج الكبرى حتى عصرنا هذا. فإذا ما فهمنا الدوافع تسهل تلبية متطلبات أصحابها.
وربما كان من أشهر الأبحاث التي أدت إلى التفات العالم إلى دور حقبة السلوك، ما جرى في مصنع «ويسترن إلكتريك»، وهي سلسلة «دراسات هاوثورن» حول الإنتاجية أجريت بين عامي 1924 و1932، اكتشف من خلالها أستاذ الإدارة الصناعية في كلية «هارفارد»، إيلتون مايو، وزملاؤه، أن تحسين الإضاءة في المصنع كان له تأثير على تحسن إنتاجية العاملين، وكذلك الحال مع تغير ساعات العمل وأوقات الراحة. ثم اكتشفوا أن الإنتاجية ارتفعت بسبب شعورهم بأن المسؤولين مع الباحثين مهتمون بهم. وهذا ما أطلق مصطلحاً شهيراً في الإدارة، وهو «تأثير هاوثورن» ومنه انبثت أبحاث عديدة عن الرضا الوظيفي، والمشاركة الفاعلة، ومقاومة التغيير، والتأثيرات التحفيزية، وغيرها.
واكتشفوا مسألة محورية، وربما غير مسبوقة علمياً آنذاك، وهي أن السلوك الاجتماعي، ومعايير الجماعة وسلوكياتها، تؤثر بشكل أكبر على مخرجات (أداء) العاملين، أكثر مما تفعله العوائد التحفيزية المالية، وكانت تلك نقلة نوعية وصادمة، بددت الاعتقاد السائد بأن العمال يمكن أن ترضيهم أو تحسِّن أداءهم بمغريات مالية.
خلاصة القول: إن الإدارة بحقب عديدة أسهمت في تطورنا، منها الحقبة الكلاسيكية، والكمية، ثم السلوكية التي بنيت على دراسات هاوثورن، بعدها تشكل لدينا علم السلوك التنظيمي الذي أثرى عالم الإدارة بشكل عميق، وغير مجرى قراراتها ونتائجها عند التعامل مع ملايين البشر حول العالم.
وللحديث بقية.