د. عبد الله فيصل آل ربح
أكاديمي سعودي, أستاذ مشارك لعلم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية جراند فالي الأميركية, وزميل أبحاث غير مقيم بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة. نشر العديد من الأبحاث المحكمة في دوريات رصينة, إضافة لنشره لعدة دراسات في مراكز الفكر بواشنطن. ومن أهم إصداراته كتاب «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو: تغطية المملكة في القرن العشرين»
TT

شرخ واشنطن

استمع إلى المقالة

تتصاعد وتيرة الموسم الانتخابي مع قرب الحسم الرسمي لتسمية المرشحين الجمهوري والديمقراطي، التي يبدو من اليوم الأول أنها إعادة لجولة موسم 2020 حينما تواجه ترمب مع بايدن.

رئيس يثير حنق الكثيرين، بما فيهم الموالون لحزبه، مقابل مرشحٍ سبق له المرور بالبيت الأبيض ويرى فيه أعضاء حزبه أنه الخيار الوحيد لإزاحة الحزب الآخر من البيت الأبيض. سيناريو معاد لا جديد فيه سوى تبادل الأدوار بين الرجلين.

رغم أن مشهد تبادل التهم والفضائح أمر اعتيادي في الانتخابات الأميركية، فإن ما حصل بدءاً بانتخابات 2016 يعدُّ تحولاً خطيراً في تاريخ الانتخابات في بلد يولي «الموسم الانتخابي» عناية خاصة. فقد كانت المنافسة المحتدمة بين المرشح الجمهوري دونالد ترمب والمرشحة الديموقراطية هيلاري كلنتون مستندة على فضح كل طرف للآخر كمرتكز رئيسي للدعوة للترشيح. المختلف هنا أن المرشحين لم يركزا على ما سيقدمانه للشعب بنفس مستوى تركيزهما على تنزيه الذات مقارنة بالآخر. ما جرى في ذلك الموسم يفسّر المظاهرات التي قامت احتجاجاً على فوز ترمب، والتي مهد لها تأخير اعتراف كلينتون بالخسارة لليوم التالي، وذلك على عكس الأعراف المعتادة في حال خسارة مرشح أمام الآخر.

لعل ما حصل في أعقاب فوز ترمب من احتجاجات مناوئيه يفسّرُ ما فعله أنصاره عندما خسر بعدها بأربع سنوات. إنه التشكيك في جدوى العملية الانتخابية التي تجلبُ رئيساً مرفوضاً من قبل ملايين الأميركيين، بغض النظر عن كونه مرغوباً من قبل ملايين آخرين.

بالرغم من كل ما حفلت به فترة رئاسة ترمب من سلبيات، فإنه قد عُومل من قبل الإعلام معاملةً لم يُعامل بها رئيس أميركي قبله. لقد واجه ترمب حملة إعلامية مفعمة بالسخرية والانتقادات بشكل غير مسبوق، وقد ألقت تلك الحملة الإعلامية بظلالها على الفضاء العام، فأصبحت شيطنته أمراً مقبولاً حتى في بعض المؤسسات الرسمية والمدارس.

بغض النظر عن شخص ترمب، فالشخص المستهدف بالشيطنة هو رئيس الولايات المتحدة الذي يدير حكومتها. والمسألة هنا تتعدى فكرة حرية التعبير التي يفصّلها المستفيدون منها على مقاس أجندتهم. لذلك كان الدعم غير المحدود لجو بايدن الذي لم يكن الأفضل بين مرشحي الحزب الديمقراطي، لكنه قد دُعم بناء على كونه نائباً آخر لرئيس ديمقراطي قبله (باراك أوباما)، الذي يحظى بشعبية كبيرة بين جماهير الحزب.

في انتخابات 2020 تم تحميل إدارة ترمب كامل المسؤولية حول تداعيات انتشار فيروس «كوفيد - 19»، وحتى عندما واجه بايدن في المناظرات وسأله عن الإخفاقات التي واجهتها إدارة أوباما - الذي كان نائبه - في مواجهة إنفلونزا الخنازير، لم يكترث الإعلام لتلك المقارنة واستمر في لوم ترمب على ازدياد الوفيات جراء الجائحة.

انتخب بايدن، وثبت خلال فترة رئاسته أنه لم يكن خيراً من سلفه، غير أن الأهم هو ما حصل بعد ذلك. بالرغم من محاولة الإعلام المتحالف مع الحزب الديمقراطي أن يلمّع الرئيس المسن، فإن كثرة زلاته - على الهواء - جعلته مادة للسخرية في البرامج السياسية والكوميدية بشكل يذكرنا بما كان يحصل لترمب. الفارق أن ترمب قُدّم بصورة مشيطنة، بينما قُدّم بايدن بصورة الرجل المسن المسكين. في المحصلة، فإن صورة الرئيس الأميركي التي طالما ظلت محترمة عند الشعب الأميركي اهتزت بشكل أحدث شرخاً تاريخياً في صورة رمز البلاد.

كثيرة هي السيناريوهات التي يمكن تخيلها في الأشهر المقبلة، من انسحاب بايدن لأسباب صحية، إلى انسحاب ترمب لأسباب قانونية، وما إلى ذلك، أو دخولهما السباق الانتخابي وفوز أيٍّ منهما. لكن الأمر المؤكد أن صورة الرئيس الأميركي عند شعبه - وبقية العالم - لم تعد كما كانت، إنه الشرخ الذي أصاب صورة ساكن البيت الأبيض، والذي يتوجب على من سيأتي بعد ترمب وبايدن أن يعالجه.

سيحتاج الشخص القادم لمدة طويلة حتى يستعيد هيبة المكتب البيضاوي، وقد لا يسعفه الوقت بعد أن تمرّس الإعلام الأميركي على السخرية من الرئيس وجعله مادة للفكاهة بالدرجة الأولى.